قرأت فى جريدة «التحرير» عدد 22 أغسطس مقالا لمحمد شعير بعنوان (فتش عن طارق البشرى)، يذهب فيه إلى أن ضرورة إقرار المبادئ الدستورية فوقيا، التزاما باتفاقيات مصر الدولة، ويرى أن رفض المستشار البشرى المبادئ الدستورية واعتباره إياها عبثا هو سلوك غير ديمقراطى، يعبر عن تصوراته السياسية التى يراها الكاتب عنصرية، ويمتلئ المقال بادعاءات غير دقيقة، تصب فى اتجاه إعادة كتابة التاريخ بشكل مخالف للواقع. ومغالطات المقال لا يتسع المجال لحصرها، فسأكتفى بتتبع بعضها، منها افتراض أن الفتاوى القانونية التى خرجت من المستشار البشرى فى أثناء عمله بمجلس الدولة، كانت تعبر عن مواقفه الفكرية لا عن أحكام القانون، وهو باطل، إذ الأصل صدورها وفقا للقوانين وإلا نقضت، ولما أنها لم تنقض فقد لزم الكاتب الدليل، ولم يقدمه. ويفترض الكاتب وجود تعارض بين الهوية والديمقراطية، يمنع الدولة القائمة على الهوية من أن تكون ديمقراطية، وهو باطل، فكل دولة تقوم على هوية تمثل أساسها المرجعى والحضارى، وعليه فلكل ديمقراطية هوية، والقدر المشترك من تعريفات الديمقراطية هو شقها الإجرائى، وهو غير متناقض بالضرورة مع الهويات، فتبطل الدعوى. ويستند الكاتب إلى ما سبق، ليدعى أن نظام يوليو حاول بناء مصر على أساس الهوية، وثورة يناير نقضت هذا المفهوم لتبنى مصر الديمقراطية، ومن ثم فأبناء يوليو -والمستشار البشرى منهم- من «قوى الثورة المضادة»، وهذه عبارة مشحونة بالمغالطات، فافتراض أن مصر قبل ثورة يوليو لم تكن قائمة على أساس الهوية مردود بنص دستور 1923 على أن (الإسلام دين الدولة)، وافتراض أن تطابق رؤى المستشار البشرى وثورة يوليو منقوض بكتابه (ثورة يوليو والديمقراطية)، وفيه دفاع عن العدالة الاجتماعية والاستقلال الوطنى، ونقد للفقر الديمقراطى لنظام يوليو. وافتراض أن التناقض بين الثورتين باطل من جهتين، أولاهما وجود تيارات ناصرية ضمن قوى الثورة (وبه يمتنع اعتبارهم ثورة مضادة)، وثانيهما أن ثورة يناير أشمل من يوليو، وغير مناقضة لها، فالعدالة الاجتماعية التى قامت لها ثورة يوليو كانت جزءا من مطالبات ثورة يناير، وأضيفت إليها الحرية، والاستقلال الوطنى القائم على الانتماء العروبى والإسلامى، وكانت أساسا لثورة يوليو، وظلت حاضرة فى يناير، فتنتفى دعوى التناقض، ويبطل المدعى. والادعاء بأن المستشار البشرى «لم يحترم الشعب حين وافق على تعديل دستور 71» منقوض بموافقة الأغلبية على التعديلات، وبأن اللجنة التى رأسها المستشار حين أسند إليها مهمة تعديل الدستور سلكت سلوكا ديمقراطيا بإسناد مهمة تشكيل جمعية تأسيسية لدستور جديد لجهة منتخبة، بدلا من أن تقوم هى (اللجنة غير المنتخبة وذات الطابع الفنى لا السياسى) بذلك. ويصاحب هذا الادعاء بأن المستشار البشرى شكل اللجنة، وأن المجلس العسكرى يعتبره مستشاره رغم كونه «المنظر الأول والأخطر فى جماعة الإخوان»، وأن الإخوان -بفضل تعديلات الدستور- تحولوا من الخوف من حذف المادة الثانية إلى الرغبة فى كتابة الدستور منفردين، وأنهم رفضوا منصبا وزاريا عرض عليهم لأنهم ما عادوا يرضون بالقليل، وهى كلها ادعاءات من نسج أوهام الكاتب لم يقدم عليها دليلا، وتمثل، مع ما سبق، محاولة تزوير للتاريخ، إذ توحى بأن الإسلاميين لم يكونوا جزءا من الثورة، وأنهم سلكوا سلوكا غير ديمقراطى بعدها، بعقد صفقة مع المجلس العسكرى عن طريق المستشار البشرى تسمح لهم بكتابة الدستور منفردين، وواجب المجلس الآن هو التراجع عن هذا الانحياز عن طريق فرض المبادئ الدستورية وفق ما يريد الكاتب. وتغفل الرواية تفاصيل مهمة، فالجهة المنوط بها اختيار الجمعية التأسيسية هى البرلمان لا الإسلاميين، والقوى الإسلامية، دون غيرها، هى التى تم استبعادها من كل التشكيلات الحكومية بعد الثورة، وأغلب أعضاء لجنة تعديل الدستور قضاة وفقهاء قانونيون غير محسوبين بحال على التيار الإسلامى. ويفترض الكاتب أن رفض المستشار البشرى لإقرار المبادئ يستند لرفضه مضمونها، مع أن تصريحات المستشار تناولت (الشكل)، ومعلوم أن انضباطه شرط لمناقشة المضمون، وعليه العمل عند القانونيين والمناطقة، فإذا كان المستشار البشرى الشكل (وهو فرض المبادئ ممن لا يملك شرعية ذلك) فإن مناقشة المضمون تصير عبثا، امتنع عنه بحصر تعليقاته فى الشكل. المنطق الذى يستند إليه الكاتب فى دفاعه عن المبادئ يستحق التمحيص، فهو يقبل بأن تفرض جهات غير منتخبة (هى المجلس العسكرى والحكومة) المبادئ التى عليها يستقر النظام السياسى بعد المرحلة الانتقالية، وهو موقف غير ديمقراطى، ولا يرد عليه بأن غالبية القوى السياسية متوافقة على المبادئ، فحتى لو تحولت الأغلبية إلى إجماع، فإن المطالبة بنقض نتيجة استفتاء شارك فيه الملايين باتفاق تنحصر أطرافه فى تيارات سياسية منظمة هو سير فى عكس اتجاه الديمقراطية. ويستند الكاتب إلى الزعم بأن مصر ملزمة بإقرار المبادئ التزاما منها بمعاهداتها الدولية، وهو مردود من جهات، أولاها أن الاتفاقيات وقع عليها نظام مفتقر للشرعية الديمقراطية، والالتزام بها يبقى الإرادة الوطنية، التى قامت الثورة لتحريرها، أسيرة، فالأصل أن تخضع هذه الاتفاقيات (كاتفاق كامب ديفيد) لمراجعة الجهات المنتخبة لتقر ما يتوافق مع الصالح الوطنى، وتعدل أو تنقض سواه، أما ما يتعلق بمواثيق حقوق الإنسان، فبناء الكاتب موقفه على أساس كون المواثيق تمثل (المطلق) والأرضية المشتركة، غير مسلم به عند خصومه، إذ الطرف الإسلامى (وهو الأوسع شعبية فى مصر) يعتبر الشرع هو المنطلق، ولا يعنى هذا بالضرورة أنه يرفض مضمون هذه الوثائق، وإنما المشكلة فى اعتبارها الأساس الذى تقوم عليه بلادنا، والذى لا تجوز مناقشته أو مخالفته، حتى إن لم يكن معبرا عن إرادة أبناء الوطن. إن اعتراض الكاتب على خصومه جوهره -فى أكثر تفسيراته براءة- خوف من أن يفرضوا عليه مرجعيتهم الفكرية ويحاكمونه وفقها، رغم أنه يريد فرض مرجعيته عليهم.