فى 1977 قدم الشاعر أحمد إسماعيل شكوى إلى رئيس محكمة الاستئناف يذكر فيها أسماء من عذبوه وأجلسوه على خازوق خشبى ليكون شاهد زور فى قضية سياسية. رحل أحمد هذا العام وهو ما زال رافضا الحصول على تعويض مالى لأنه كان يريد إدانة صريحة لأجهزة الأمن كخطوة فى سبيل تغييرها لتتحول من سلخانات للبشر إلى مؤسسات تدافع عن القانون وتخدم الشعب. ما حدث لشاعرنا الرقيق وقع أسوأ منه لسيد بلال وخالد سعيد العام الماضى، وماتا ضحية التعذيب على الأرجح، وتعرض له مئات الآلاف من أبناء مصر الذين دخلوا نفق التعذيب المظلم على يد أنظمة وضعت كرامتنا تحت حذائها من أجل مصالح وطنية مُدَّعاة على مدى معظم الستين عاما الماضية. وللأسف من الواضح أننا لم نخرج من هذا النفق مع النظام الراهن. لقد توقفت المؤسسات الأمنية فى مصر تقريبا عن أن تحمى الدولة والشعب من العدو الخارجى واللص الداخلى وصارت لا تحمى سوى النظام بوسائل صارت معها مصدر رعب وإذلال لأبناء الشعب. ولذا يبدو الجدل حول محاكمات مبارك ومسؤولى الداخلية وضباط أمن الدولة فى مصر مثل معالجتنا لسحابة دخان قش الأرز الموسمية. ينبغى أن تنقشع هذه السحابة عن سماء مصر وبسرعة ولكن فى نفس الوقت يجب أن نحدد جذورها ونقتلعها حتى لا تصبح قدرا محتوما يخيم علينا بشبحه المرعب. قد ترحل السحابة هذا العام عن طريق محاكمات تعاقب المجرمين وترضى المطالبين بالقصاص وتهدئ الأوضاع السياسية، ولكن مثل هذه المحاكمات مهما كانت عادلة لن تكون بداية مرحلة جديدة تعلن نهاية عهد الإفلات من العقاب لكل من ينتهك القانون من موظفى المؤسسة الأمنية. وشاهدنا على هذا استمرار ورود تقارير التعذيب والإهانة والقتل فى الأسابيع القليلة الماضية. المحاكمات القضائية فى قنواتها الطبيعية لن تغير الممارسات المفضلة لدى من كانوا يدّعون أنهم «أسياد البلد»، حيث ما زال معظمهم ينتظرون عودة الأمور إلى مجاريها من أجل مواصلة سحل «أبناء البلد». المحاكمات ستجلب بعض الطمأنينة لقلوب مكلومة بفقد أعزاء راحت دماؤهم فداء لانتفاضة أفاقت معها مصر من غيبوبة طويلة، ولكنها لن تفسر لنا لماذا تحول بعض أبناء البلد إلى زبانية ينهشون فى لحمنا تعذيبا وترويعا. سيصبح النظام الحالى مثل من سبقوه تماما إذا لم يُبذل جهد حقيقى من أجل أن نعرف الحقيقة ونحقق المصالحة وندفع التعويضات ونصلح الجهاز الأمنى وعقيدته ومنظومته القيمية وننظر فى العفو عن بعض من شاركوا فى ممارسات التعذيب شريطة الإدلاء باعترافات علنية كاملة أمام لجان قضائية خاصة. كل هذه الإجراءات مجتمعة ستساعدنا أن لا نغوص فى نفس المستنقع مرة أخرى وستؤكد لمئات الآلاف ممن عملوا ويعملون فى الأجهزة الأمنية أن تغييرا حقيقيا صار فى مصر، وستشجع مَن ظل منهم يحتفظ بحد أدنى من النزاهة والأخلاق على أن يفضح ممارسات العهد الماضى التى شارك فيها، وستبعث برسالة قوية لمن يحلم منهم بالعودة لتسيد البلد وقمع أبنائه أن الماضى لن يعود. هذا هو الطريق الوحيد كى نمضى قدما متخففين من آلام وكوابيس التعذيب وامتهان الكرامة الإنسانية فى مصر. يجب أن نعرف الحقيقة الكاملة قدر الإمكان حول التسلسل القيادى والممارسات التى قتلت بلال وسعيد وغيرهما وليس فقط أن نحاكم العساكر والضباط الذين قاموا بالتعذيب مباشرة. من وضع هذه السياسات الدموية؟ من أصدر الأوامر بالتعذيب؟ من خلق الظروف الدافعة والملائمة لهذا العنف الصارخ؟ من طمأن الزبانية أنه لا أحد سيحاسبهم؟ من خصص الموازنات لشراء أجهزة التعذيب؟ ما الدول التى تصدّر لنا تلك الأجهزة؟ مَن مِن حكومات العالم درّب زبانية مصر وكافأهم؟ الإجابات عن تلك الأسئلة وغيرها ستمكننا من وضع قواعد مؤسسات أمنية جديدة نرفع معها رأسنا لفوق. ولهذا الغرض نحتاج إلى هيئة مستقلة بصلاحيات واسعة وميزانية جيدة وجلسات استماع علنية، هيئة للحقيقة والمصالحة. ودعونا نعترف بأن الزبانية هم بعض منّا وأن قيمهم ومبادئهم مستخلصة جزئيا من مجتمعنا وأن عمل هيئة للحقيقة والمصالحة لن يكون فحسب موجها ضد مئات أفراد الأمن المنعزلين بل سيكون فرصة لنا جميعا لنواجه مسؤوليتنا عن ظهور وتغلغل سرطان التعذيب وانتهاك حقوق البشر فى جسدنا الوطنى وكيف يمكن لنا أن نحاربه سويا. مثل هذه الهيئة إذا عملت بجد وتجرد ستضع لنا أسسا جديدة يصعب معها أن نعود إلى الممارسات البوليسية القمعية. هذا بالضبط ما فعلته الأرجنتين وشيلى فى الثمانينيات وجنوب إفريقيا فى منتصف التسعينيات عن طريق هيئات مماثلة تمتعت بصلاحيات واسعة ليس من أجل سجن وعقاب المنتهكين فحسب بل من أجل العفو عن بعضهم أيضا مقابل الحقيقة ومن أجل تعويض الضحايا ماديا ومعنويا واجتماعيا، وتحديد الأسباب والهياكل التى أدت إلى ما حدث من تجاوزات منهجية واسعة النطاق، وإرساء ثقافة وقواعد المسؤولية والمحاسبة والشفافية وحكم القانون، واقتلاع ممارسات الإفلات من العقاب من جذورها. افتحوا الملفات كى يصبح ما حدث فى 25 يناير 2011 ثورة بحق، وإلا سيحدث ما وقع فى بلاد عديدة فى التاريخ عندما لا تحقق الثورة الأولى تغييرا حقيقيا، وتندلع ثورة ثانية خلال سنوات، أكثر دموية وعنفا واكتساحا. فى قصيدته الشهيرة حذرنا أمل دنقل من الصلح المزيف قائلا: «لا تصالح ولو منحوك الذهب.. أترى حين أفقأ عينيك ثم أثبت جوهرتين مكانهما.. هل ترى؟.. هى أشياء لا تشترى» لا يجب أن نصالح حتى ولو منحونا ذهب الدية أو فضة المحاكمات. لن نشترى الحقيقة والمصالحة وضمان أن يتمتع أبناؤنا بمستقبل آمن بثمن رخيص كهذا.