السير فى شوارع القاهرة بالسيارة أو على الأقدام يكسر النفس ويملؤها بالحسرة بعدما أصبحت أكوام الزبالة تلالا وهضابا، والغريب أنه وسط حاويات النفايات الممتلئة التى تقف إلى جانب الطريق، وأحيانا فى وسط الشارع، وإلى جوار الأرصفة المفروشة بالقاذورات تجد فى كل شارع مئات الرجال يرتدون زى الكناسين وبيد كل منهم مكنسة طويلة يمارسون التسول. وعلى الرغم من علمى أن هؤلاء ليسوا كناسين، وإنما هم متسولون محترفون يرتدون ملابس الشغل وينزلون لجمع الغلة بعدما تعلموا -بالتجربة- أن الناس تعطف على الفقير العامل أكثر مما تعطف على الشحاذ الصرف.. رغم هذا فإننى كلما اقتربت من أحدهم وسمعته يدعو لى دعاء آليا خاليا من الروح طلبا للمعلوم، كنت أجرب حظى معه، وبعد أن أقوم بإفهامه أننى أدرك حقيقته أطلب منه أن ينسى التسول قليلا ويحرك مقشته ويقوم بتنظيف المحيط الذى يقف فيه، مع وعد بأن أجزل له العطاء إذا قام بالمهمة. هل تصدقون أننى فعلت هذا مع عشرات الرجال على طول شارع 9 بالمقطم ذهابا وعودة بالسيارة، ورغم هذا فإن نسبة الاستجابة كانت صفرا! ليس هذا فقط، وإنما شاهدت رجلا تعطلت سيارته وكان يحتاج إلى المساعدة لدفعها بقوة حتى تدور، ورأيته يقف بالشارع يبحث عن العون فنصحته بالاستعانة بالكناسين المزيفين وطلبت منه أن يعطيهم اللى فيه النصيب، ولكن لدهشتى فقد أعرضوا عنه وأشاحوا مبتعدين ولم يقبل مساعدة الرجل إلا المتطوعون بغير أجر من الشباب الشهم. إننى فى الحقيقة لم أقم بهذه التجربة مع هؤلاء من أجل الحصول على الشارع نظيفا، فأنا أدرك أن كل ما سيفعلونه هو تحريك الزبالة ونشرها على نطاق أوسع، لكنى فعلته مدفوعا برغبة حقيقية فى أن أقدم مساعدة مالية مقابل عمل.. أى عمل، لأننى لا أطيق أن أدفع فلوسا للشحاذين الأصحاء، فهذا يشعرنى بأننى مغفل. صحيح أنا متأكد أنهم فقراء، وعلى يقين أن ما هم فيه سببه الملعون مبارك الذى نشر فكر التسول بديلا عن قيام دولته بواجباتها تجاه الناس، ثم ألقى بمسؤولية مواطنيه على أهل الخير، ومع ذلك فإننى لا أستطيع التعاطف مع رجل طويل عريض يفضل التسول عن العمل. هذا عن متسولى الشوارع، أما متسولو التليفزيون فهم ألعن وأضل سبيلا.. هؤلاء يقومون بعمل إعلانات بالتليفزيون تتكلف الملايين ليستدروا عطف الناس من أجل أن تدفع لمستشفيات لا أحد يعلم حجم ما يصلها من تبرعات، ولا أحد يدقق فى إيراداتها ونفقاتها، أو يستطيع تأكيد أن ما يحصّلونه من أهل الخير يتم إنفاقه فعلا على الأطفال من مرضى السرطان. وفى الحقيقة أن اختيار الأطفال بالذات هدفا للتسول هو فعلا ضربة معلم، وهم فى هذا لا يفرقون عن المتسولة التى تحمل على كتفها طفلا يبكى تستدر به عطف الناس. ليس المستشفيات فقط، وإنما أيضا الجمعيات التى ظاهرها الخير وحقيقتها الاستيلاء على أموال الذين يريدون التقرب إلى الله فى الشهر الفضيل، وأنا شخصيا أعرف امرأة كانت قيادية بالحزب المشؤوم تدير ملجأ للأطفال وتقوم بالاستيلاء على التبرعات، كما تقوم ببيع بعض الصغار للأثرياء، وقد أصبحت -وهى حاصلة على دبلوم تجارة- صاحبة ملايين! ولا يمكننى أن أنسى أن أموال النذور بالجوامع كان يتم إنفاقها على أكل الكباب والكفتة، كما لا يزال يتم توزيعها على الموظفين بوزارة الأوقاف! لهذا كله فإننى أحلم بعد الثورة بدولة حقيقية تبنى المستشفيات وتنفق عليها، كما ترعى مواطنيها وتزرع فيهم الكرامة. ومن يرد أن يسأل عن مصادر تمويل مشروع الكرامة هذا أقول له: لماذا الخوف من طرح فكرة استعادة أصول وأموال اللصوص من رجال أعمال مبارك وولديه الذين أثروا من ارتكاب جرائم عديدة، ليس آخرها نهب تبرعات أهل الخير؟