الشعب يعتبر ما حدث بداية من 25 يناير، ثورة.. عديد من التيارات السياسية تعتبره أيضا ثورة فى دعايته فقط، لكنها تتصرف بطريقة أخرى تماما تؤكد أن ما حدث مجرد «هبة» يجب استثمارها سياسيا.. المجلس العسكرى أيضا يعتبر ما حدث ثورة، لكنه يترجمها على طريقته وبقدر ما يفهم. وفى الوقت نفسه يتصرف بطريقة مضادة تماما للثورة.. يتبقى جهاز الشرطة والأجهزة الأمنية الأخرى، التى لم تعلن إلى الآن موقفها مما حدث ورؤيتها للمستقبل. أما وسائل الإعلام التابعة للنظام العسكرى، وإن كنا لا نأخذها على محمل الجد، لا تكل من ذكر التغيرات العظيمة التى جرت منذ 25 يناير، لكن لا أحد يصدقها كما كان الأمر عليه بالضبط قبل 25 يناير، ومن الواضح أن أجهزة الإعلام الحكومية ستكون أحد المسامير الرئيسية فى نعش أى نظام مصرى، لأنها بتركيبتها ومنهج عملها ورؤيتها للأمور لا يمكن إلا أن تهدم أى نظام. الأمر ببساطة يدور حول بعض ما يتردد بشأن تعامل الأجهزة الأمنية (الجديدة القديمة) مع المواطنين المصريين بصرف النظر عن توجهاتهم السياسية والاجتماعية، وبالمصرى الفصيح، عندما يؤكد ضابط من الشرطة العسكرية لمواطن معتقل «حنوريكم هى ثورة ولا مش ثورة!»، وعندما يقول ضابط شرطة لمواطن آخر معتقل «إوعى تفتكر إنكم عملتوا ثورة، دى هوجة وحنلمها!»، هذه أمثلة تتم على خلفية وجود مئات الشباب فى السجون والمعتقلات، سواء المدنية أو العسكرية.. كل ذلك يجرى فى ظل حالة قمع سياسى أشد وطأة مما كان الأمر عليه قبل 25 يناير، ومن الواضح أن الوضع تحول إلى تناطح إرادات وعقليات بين شعب يرى أنه قام بثورة، وأجهزة أمنية وعسكرية ترى أنها قد تكون ثورة، ولكن... لا أحد يمكنه أن يصرح أو حتى يلمح بأن المصريين لا يحبون الأمن والاستقرار.. لا أحد يمكنه أن ينطق بحرف واحد يشير ولو حتى من بعيد بأن المصريين يكرهون الشرطة والأجهزة الأمنية والجيش.. الفكرة أن العاملين فى هذه الأجهزة والمؤسسات نسوا أو تجاهلوا مهامهم الأساسية فى خرق واضح وصريح للعقد الاجتماعى، الذى تقوم عليه العلاقة بينهم وبين الشعب، فتحولوا إلى جلادين لنفس المواطنين الذين ارتضوا أن يدفعوا الضرائب التى تستقطع منها رواتب هؤلاء العاملين.. إذن، نحن أمام معضلة موجودة فى كل دول العالم مع اختلاف الدرجات والقواعد الحاكمة والفاصلة، ونحن أيضا أمام مشكلة يتم خلط الأوراق فيها بشكل يثير الشكوك والوساوس. المصريون يريدون أجهزة أمنية تعمل وفق القانون لا وفق قواعد ما قبل 25 يناير، قد نلتمس العذر لكثيرين ممن يلحقون العار بتلك الأجهزة من داخلها، لأنهم تعودوا على ذلك، ولا يعرفون وسائل أخرى، وهم يستندون فى تصرفاتهم إلى «الوسية» التى كانوا يعملون فيها، وإلى قوة من وضعوهم فيها سواء كان ذلك بالوراثة أو بالواسطة أو عن طريق تبادل المصالح.. المصريون يريدون أيضا مؤسسة عسكرية تعرف مهمتها الأولى، وأن لا يتصور بعض العاملين فيها أن الشعب يحتاج إلى تربية عسكرية وأخلاقية إضافية.. الكلام قد يطول ويتفرع لأن النيات غير صافية، والثقة غير موجودة. الأمر ببساطة، أن الشرطة والأجهزة الأمنية لم تتغير وإن تغيرت الأشكال والمسميات وبعض الشخصيات، والمجلس العسكرى دفع بشرطته إلى وجهة أخرى تماما، بعيدة عن مهامها المنوطة بها.. كل ذلك يتم بوضوح وصراحة مع خلط الأوراق واستخدام الآلة الإعلامية التابعة للنظام العسكرى القائم، ما يؤكد أن هناك صراعا بين شعب يرى أن ما صنعه ثورة جديرة بأن تحقق تحولات جذرية فى نظام الدولة بكل إداراتها وأجهزتها، وبين مؤسسات أمنية وعسكرية ترى أن «الوسية بفلاحيها وعمالها وكادحيها» ملك لها ولأبنائها كما كانت ملكا لآبائهم وأجدادهم. نعرف أن 30 عاما صنعت خريطة متشابكة وشائكة من العلاقات الأسرية وصلات الرحم وعلاقات البيزنس والمصالح، وضخمت الذوات لدرجة أن بعض العاملين فى الأجهزة الأمنية لا يتصورون أن يقفوا أمام مواطن ليظهروا له هوياتهم أو يقدموا أنفسهم بأسمائهم وأسماء آبائهم. وندرك أنهم إلى الآن يريدون منا الاعتذار لأننا تجرأنا عليهم وأفصحنا عن قتلانا وموتانا تحت وطأة استبدادهم.. هذه المعادلة المعقدة إن لم تحل سريعا فقد يتحول القرف والضيق والانزعاج من الممارسات إلى «زعل وغضب حقيقيين» ضد هذه الأجهزة نفسها، وهنا نكون قد وقعنا فى فخ لا يعرف إلا الله كيف ومتى سنخرج منه؟ فهل من الصعب أن يتم تطهير الشرطة والأجهزة الأمنية من داخلها؟ هل من الصعب أن نقول لضابط الشرطة العسكرية إن مهمته ليست لملمة ما يتصور الشعب أنه ثورة؟ إن «رد الجمايل» و«جبر الخواطر» لا يمكن أن يكون على حساب دماء وأرواح بسطاء الناس الذين ما زالوا على استعداد لدفع الضرائب من أجل صرف رواتب أجهزة أمنية تحافظ على أمن الشعب واستقراره من الداخل، ورواتب جيش يحمى حدود البلاد وأراضيها.