ما أجمل الفرح وأعظمه! خصوصا هذا النوع العجيب من الفرح الذى يقول عنه النفرى: «اقعد فى ثقب الإبرة ولا تبرح، وإذا دخل الخيط فى الإبرة فلا تمسكه، وإذا خرج فلا تمده، وافرح فإنى لا أحب إلا الفرحان! وقل لهم قبلنى وحدى وردكم كلكم، فإذا جاؤوا معك قبلتهم ورددتك، وإذا تخلفوا عذرتهم ولمتك، فرأيت الناس كلهم براء». فالحق سبحانه لا يحب من عباده إلا الفرحان! فكيف يقعد إنسان فى ثقب إبرة ويفرح؟! يفرح بحضرة الرحمن، ويفرح بالقادم من عالم الجمال، أما غير الفرحان فمحجوب ومغترب، إذ لم يذق حلاوة نعمة العبودية للرحمن الرحيم، وهذا الفرح الجميل يلازمك حتى فى أثناء وجودك فى ثقب إبرة! هذا الشعور العظيم بالمعية الإلهية، كشعور الصديق مع الحبيب فى الغار، فلا تغادر مكانك كعبد مطيع، ترى الناس كلهم براء، فهم على وجه الحقيقة عبيد مسخرون، وما يدير هذا الكون سوى خالقه، ومن يرى غير هذا يقول له النفرى كلمة حاسمة، وهى: «حسابك غلط»! والفرح موقف داخلى جليل لمن يفقه معنى العبودية لرب الآلاء والنعم، ويتذوق حقيقة لا يدركها معظم البشر، إذ يظنون أن يديه -سبحانه- مغلولة، وأن عطاءه محدود، بينما الحقيقة أن عطاءه بغير حدود، ويداه -تبارك وتعالى- مبسوطتان، كما قال عز وجل: «بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء» (المائدة: 64). وهذا الفرح غير فرح أولئك الذين يفرحون بما آتاهم، «إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين» (القصص: 76)، فلماذا هنا لا يحب الفرحين؟ قد يكون الجواب لأنهم «فرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا فى الآخرة إلا متاع» (الرعد: 26). أما الفرح الحق، فهو فرح مجرد، أى ليس فرحا بشىء ولا بعطاء مهما كان، ولكنه فرح بالمعطى الحنان المنان، فكما قال الجنيد: «من عرف الله لا يُسر إلا به»، وقد قال تعالى: «قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون» (يونس: 85). وهذا الفرح لا ينسينا عمق الحزن فى هذا العالم! أو كما يقول النفرى: «لكل شىء قلب، وقلب القلب همه المحزون»، فهكذا هو الحزن عميق فى صلب الوجود البشرى! ولذلك قال: «يا عبد أنا عند الحزين وإن أعرض عنى»، وفى الوقت ذاته يقول: «يا عبد إذا وقفت بين يدى فوار عنى كل شىء حتى همك المحزون على»، فأى شىء يبقى بين يديه تبارك وتعالى؟ وهذا مقام يتجاوز فيه العبد الحزن والفرح، كما قال تعالى: «لكى لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم» (الحديد: 32). إذ الحقيقة أن تسلم ولا تنصرف، وأن لا تأسى ولا تفرح، ولا تنحجب عنه، ولا تنظر إلى نعمته، ولا تستكين لابتلائه، ولا تستقرك المستقرات من دونه. فهكذا هو الأمر كله لله، ولا سكون ولا استقرار إلا فى معيته سبحانه وتعالى.