كانت فتنة مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضى الله عنه- أول وأخطر فتنة هزت دولة الإسلام، وأثرت على مستقبلها، ولا يزال تأثيرها مستمرًّا حتى الآن، على المستويين السياسى والعقائدى، لكن الخلافات السياسية التى أدت إلى اغتيال عثمان لم تبدأ فى عهده، حيث بدت ملامحها مع أول اختبار لمسؤولية الحكم عقب وفاة الرسول، عليه الصلاة والسلام، فى ما عرف ب«يوم السقيفة»، فقد نشأ خلاف على البيعة وتسمية من يخلف الرسول، فقد اجتمع عدد من الأنصار فى سقيفة بنى ساعدة، ورشحوا سعد بن عبادة للخلافة، وحين سمع عمر بن الخطاب بهذا الأمر، أخبر أبا بكر وأسرعا إلى السقيفة، وأكدا أحقية المهاجرين فى الخلافة، فاقترح الأنصار أن يكون من المهاجرين أمير، ومن الأنصار أمير، فرفض ابن الخطاب ورشح أبا بكر للخلافة، بينما رشح آخرون الإمام على بن أبى طالب «كرم الله وجهه»، وعندما تمت البيعة لأبى بكر، رضى الإمام بالأمر، لكن عددًا من الصحابة أعلنوا رفضهم البيعة وقاطعوا السقيفة، وكان فى مقدمتهم أبو ذر الغِفارى الذى لعب دورًا كبيرًا فى رفع صوت المعارضة السياسية، خصوصًا فى أثناء خلافة عثمان بن عفان، وقد فسر معظم المؤرخين موقف الغفارى باعتباره أول تكريس واضح لفكرة التشيع لأهل البيت، مثلما كان يرى، ومعه بنو هاشم، وعدد من الصحابة، مثل عمار بن ياسر والمقداد بن عمرو وأسامة بن زيد، وآخرون. وحدد بعض المؤرخين عددَ مَن جاهروا بمعارضة بيعة أبى بكر فى 12 صحابيا «6 من المهاجرين و6 من الأنصار». ورغم آلاف الصفحات التى كُتبت عن حادثة السقيفة، فإن أغلب الكتابات لم يعتبرها فتنة، بل أشار بعض الكتابات الحديثة إليها، باعتبارها نموذجًا ناصعًا للديمقراطية الإسلامية المبكرة، وعدم الانقياد وراء رأى واحد، لأن المهم أن المعترضين احترموا رأى المؤيدين ومضت بيعة أبى بكر القصيرة فى سلام، وواجهت الدولة الناشئة التحديات الجسيمة، التى تعرضت لها بعد وفاة الرسول. ويمكننا الآن أن نفهم من خلال المفاهيم السياسية المعاصرة طبيعة الاختلاف بشأن بيعة أبى بكر، كما يمكننا أن نفهم الاستقرار على خلافته بعد ذلك، فقد كان هناك رأى يرى بقاء الحكم فى قريش، وبالتالى بايعوا أبا بكر الذى كان يؤيد هذه الفكرة بقوله: «إن العرب لن تعرف هذا الأمر إلا لقريش، لأنهم أوسط العرب نسبًا ودارًا»، لكن الأنصار من أهل المدينة اعترضوا على ذلك، وأشاروا إلى دورهم فى نصرة الرسول والمهاجرين، بينما ظهر رأى ثالث يدعو إلى اختيار أمير من الأنصار، وآخر من المهاجرين، لكن الاتجاه العام استقر على أبى بكر، استنادًا إلى أن الرسول، حين أقعده المرض، اختار أبا بكر لإمامة جموع المسلمين، ومن هنا يبدو أن أول انتقال لسلطة الحكم فى الإسلام تم بشكل سلمى وديمقراطى، لكنه كشف أيضًا عن بذور التعدد فى الرأى، وبروز تحديات الدولة المدنية، إلى جوار مفاهيم القداسة الدينية وتنامى مشاعر التشيع لآل البيت، وطبعًا لم تكن لفظة الشيعة فى عهد الرسول ذات دلالة سياسية، لكنها كانت تعبيرًا عن الحب والولاء للرسول وآل بيته، وكانت الشيعة فى ذلك الوقت أربعة من الصحابة فقط هم: أبو ذر الغفارى، وسلمان الفارسى، والمقداد بن الأسود الكندى، وعمار بن ياسر. هذه الملاحظة تساعدنا على فهم الظروف التى نمت فيها بذور الصدام بين «الدولة المدنية»، التى تنتصر عادة للإجراءات السياسية واعتبارات السلطة لتمكين الحكم، وبين القيم العقائدية المثالية التى تنتصر عادة للقيم المثالية والمفاهيم الدينية والشعورية أيضًا، وهذا هو الصدام الذى ظهر بوضوح فى أثناء خلافة عثمان رضى الله عنه، الذى نواصل البحث فيه ملتزمين بمكانة الصحابة، رضوان الله عليهم، ومنفتحين على اجتهاد عقلانى، يتيح لنا الاستفادة من دروس التاريخ دون قداسة فى مجال الإدارة وأمور السياسة. نسأل الله أن يهدينا إلى الصواب ويوفقنا فى الاجتهاد!