استيقظت اليوم ورأسى فارغ تماما من المحتوى، لا شىء يدور فى تلافيف عقلى ولا فى بئر ذاكرتى التى جفت ينابيعها، مساحة من البياض اللا متناهى وكأنها صحراء الربع الخالى، فى نهاية الفضاء نقطة صغيرة بها صورة باهتة وكأنها لشخص يقف وسط الضباب، تذكرنى بأننى بالأمس كنت أفكر فى شىء ما، كان يشغلنى تماما حتى إننى غفوت وأنا أفكر فيه، واليوم لم يعد لدى ما أفكر فيه، اتصلت به وأنا فَزعة، أصرخ: ضاعت منى ذاكرتى! ■ وكيف تذكرتينى؟ - لا أعرف، أنت كل ما تبقى فى الذاكرة. ■ لا تشغلى بالك مَن يريد أن يتذكر اليوم ما فات؟ فرصة لتبدئى من جديد؟ - كيف أبدأ، وليس لدى مخزون فكرى أبدأ منه؟ ■ وما المخيف فى ذلك؟ أنتِ محظوظة، آخرون يدفعون الكثير ليمحوا ماضيهم، ويدفعون أكثر ليجعلوا الناس ينسونه معهم. - إنه العبث ذاته، هل تجدنى بلا ذاكرة أفضل؟ ■ هل الأمر مهم إلى هذا الحد؟ هل تريدين ذاكرة فورية؟ اجلسى أمام التليفزيون لمدة ساعة، سيحشون عقلك بعشرات الأفكار ومئات الأخبار، اقرأى كتابًا، اسمعى موسيقى، فى خلال 24 ساعة سيكون لديك ذاكرة عصرية على أحدث طراز، يمكنك بعد ذلك أن تعيدى شحنها باستمرار، ولن يكلفك الأمر سوى جنيهات قليلة، العالم فيه وفرة ذاكرة، وأنتى تشكين من ندرتها! تخففى، دون ذاكرة تصبحين كالفراشة، الذاكرة كأكياس الرمل تشدنا إلى الأرض وتثقل خطواتنا. - ماذا أفعل بذاكرة العالم وأنا لا أعرف من أكون، هل تعرف نفسك دون ماضيك؟ ماذا كنتِ عليه فى العاشرة من عمرى، ذكرياتى مع أسرتى، أين الشجرة التى كتبت عليها كلمة أحبك بمبرد الأظافر، شجارى مع رئيسى فى العمل.. إلخ، تلك المتعلقات التافهة التى نحتفظ بها فى سحّارة قديمة نحملها معنا كلما غيرنا البيوت، ملايين الصور التى تشكل حياتنا وتجعل لها بداية ومسارًا، أريد عمرى الذى فات. ■ اسألى أذكرك، فأنا رفيقك منذ القدم، ميلان كونديرا يقول على لسان جان دارك بطل رواية الهوية إن الصداقة ضرورية للإنسان من أجل حسن عمل ذاكرته، الرواية تحاول أن تجيب عن جزء مما تشعرين به الآن، عن الهوية والأنا التى تلازمنا، يقول فيها «إنه ربما كان تذكر المرء لماضيه الذى حمله معه دائما هو الشرط الضرورى لاحتفاظه بكامل الأنا، من أجل أن لا تتقلص هذه الأنا، وحتى تحافظ على حجمها يجب أن نسقى الذكريات كما نسقى الزهور، وهذه السقاية تقتضى اتصالا منتظمًا بشهود الماضى، أى بأصدقاء، إنهم مرآتنا، ذاكرتنا، لا يطلب منهم شىء ما سوى أن يلمعوا، من حين لآخر، هذه المرآة لنستطيع أن ننظر إلى أنفسنا، دائما إن فضل الأصدقاء أنهم بمثابة ذاكرة إضافية لنا، وكأنهم مرايا نرى فيها أنفسنا، ربما لذلك تذكرتينى لأستعيد معك ذاتك بذكرياتى عنك. ■ وكيف لى أن أتأكد أن ما تذكره عنى سيكون ذاكرتى أنا لا ذاكرتك أنت؟ - أنتِ التى تركتيها عندى أمانة، سأحكيها دون زيادة أو نقصان، سأقول لك كيف كان مظهرك وأنت فى الثامنة من عمرك بضفيرتين تصلان إلى نصف ظهرك، ولمعة ذكاء فى عينيك، سأقول لك ماذا كنتِ ترتدين فى أول يوم بالجامعة، ومشكلات السيارة الريتمو، أول سيارة امتلكتيها، وخوفك من أن تتوقف بك فجأة وأنت فى صحبة زميلة فى طريقكما إلى الإسكندرية دون علم والدك، سأحكى لك عن حزنك بعد فقدان أمك والأسى بعد فقدان حبيبك، سأقول لك كيف كانت السماء ترعد، وأنت تراقبين بسعادة الأمطار التى تهطل بغزارة من وراء زجاج الشاليه فى العين السخنة، سأصف لك كيف تنامين كطفل. - ما تذكره كلمات لا تحمل مشاعر، الذاكرة تحمل العواطف التى تصاحبها، نسترجع الماضى بكل ما يحمل من فيض أحاسيس، تبعث معه بهجة القبلة الأولى وألم الفقدان ورهبة الفشل والخذلان، ورجفة الافتتنان بصوت الرعد، ما تقصه علىّ صور خالية من الأحاسيس، وكأننى أشاهد مجموعة صور لشخص آخر يصف لى من خلالها الزمان والمكان. ■ إذن أنتِ خدعتينى، وهبتينى معلومات لا ذكريات، كما تخدعين نفسك الآن، وتدعى أن عقلك صفحة بيضاء؟ ■ هل تتهمنى بالكذب؟ - لا أتهمك بالكذب ولكن بالتوهم مثل ما يفعله معظم المرضى النفسيين، الذين يقعون فى وهم تصورات تتملكهم، فيتصور جندى بسيط أنه قائد عظيم لجيش جرار يأمر فيطاع، كما يتحدث شحاذ عن ثراء أبيه الإقطاعى الذى ينحدر من سلالة محمد على، إنهم يتوهمون واقعًا غير الذى يعيشونه، كما تفعلين حين تتدعين فقدان الذاكرة والحقيقة أنكِ مدفونة فيها عالقة فى الماضى لا يغادرك وتدعين أنكِ تبحثين عنه. ■ هل تتهمنى بالجنون؟ - لا، ولكن بمحاولة الهرب من الواقع حتى لا تواجهيه. ■ من أنت حتى تحكم علىّ بما ليس فىّ؟ - أنا ملجأكِ حين تضيق بكِ الحياة، أنا سرّك الخفى الذى يحفظك من الضياع.. أنا: أنت... أنا نصفك الثانى. أنا أتذكر إذن أنا أحيا. أنا أتذكر إذن أنا إنسان.. أنا أتذكر إذن أنا أحيا