قالت: لماذا أغلقت حسابك على «فيسبوك»؟ قلت: استراحة. قالت: تصورت أنك غضبت من التعليق الذى كتبته إحدى الصديقات على مقالك المنشور يوم الجمعة الماضى. قلت: أى تعليق؟ قالت: إنك شربت شاى بالياسمين. قلت ضاحكًا: القرنفل هو نكهتى المفضّلة فى الشاى، ولا أستبدل به إلا النعناع. عندما خرجت لأعود إلى بيتى سيرًا على الأقدام، سألت نفسى: هل يمكن للمرء أن يبيع رأيه للسلطة دون أن يقصد؟ وإذا باعه قاصدًا متعمدًا، فما المقابل الذى يرضيه فى هذه الصفقة؟ لم أفكر كثيرًا فى الإجابة، لأننى انشغلت فجأة بذكريات لقائى الأخير مع بهاجيجو.. العم بهجت عثمان رسام الكاريكاتير الذى أبدع «بهجاتوس» و«بهجاتيا العظمى»، شعرت بالحنين إلى رسومه وفلسفته، فقد كان يتصوّر أن الكاريكاتير هو «فن المبالغة» حتى فوجئ فى نهايات حياته أن رسومه عن الديكتاتورية كانت أقل نقدًا وقسوة مما يجب، لأن واقع الديكتاتورية كان أكثر توحُّشًا مما تخيّل أو توقع، لذلك كان ديكتاتور بهجاتوس أكثر رحمة من الديكتاتور الواقعى. وعقب فترة من صدور كتاب «بهجاتوس» قال لى العم بهجت إن فكرة تصوير نفسه كديكتاتور من العالم الثالث بدأت كرد فعل على الزمن الردىء الذى دخلته مصر بعد رحيل عبد الناصر، ووعدنى بأن يستمر فى مشروعه لفضح المستبدين، وعندما التقيته فى منتصف التسعينيات كان يركّز على رسوم الأطفال، كأنه اعتزل السياسة ورسم الكاريكاتير للكبار، وعندما ذكرته بما دار بيننا قبل سنوات قال لى إنه يفعل ذلك، لأنه لم يستطع اعتزال الرسم نهائيًّا: «تقدر تقول كده نصف اعتزال، ونصف هزيمة، ونصف يأس، فنحن كجيل خسرنا رهان تغيير العالم بطريقتنا، رفعنا شعار (نحو عالم أفضل)، وناضلنا وتعبنا من أجل تحقيق هذا الشعار، وحلمنا بغدٍ يليق بنا، لكن هذا الغد راوغنا، ولم يأتِ، وأرسل إلينا (بلاوى) أسوأ من أى كابوس تخيلناه أو لم نتخيّله، فضحكنا على أنفسنا وقلنا -كل بطريقته- إن الأمل فى الأجيال اللاحقة؟». كان لدىَّ سؤال دائم لم أستطع أن أسأله له فى كل مرة التقيته فيها، وفى المرة الأخيرة شجعتنى حالة البوح التى تملّكته، على توجيه السؤال بحذر، فقلت له: هل صحيح أنك انتقدت صديقك الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور بقسوة أدَّت إلى انفعاله بشدة فأُصيب بأزمة قلبية مات على إثرها؟ نظر نحوى العم بهجت، لكن عينيه كانت تحدق فى فراغ بعيد، ولم يجب، فعاودت سؤالى بحذر أكبر: لقد كتب البعض أنك عاتبته، قائلًا: «أنت بعت يا صلاح وبقيت مع السلطة.. بعت بمليم يا صلاح». خلع العم بهجت نظارته، وأخذ يمسح زجاجها صامتًا كأنه لم يسمع شيئًا، فغيّرت الموضوع وسألته: ألا يراودك الحنين إلى النحت فى أى لحظة؟ قال بفتور: لا أحب الحنين. شعرت أن خيط الحوار قد انقطع، فأنهيت اللقاء بمجاملات لطيفة، واستأذنت فى الانصراف، وعندما حملت أوراقى وشرعت فى الخروج، فاجأنى العم بهجت بجملة قلقة ويائسة إلى درجة التحريض، حيث قال: أخشى أن نكون جميعًا قد بعنا أنفسنا للسلطة بطريقة أو بأخرى! التفت نحوه، وكان لا يزال يمسك نظارته فى يده، وسألته: يعنى إيه؟ قال: يعنى كلنا تركناها تفعل فينا ما تشاء. قلت: مين؟ قال: السلطة. لم أجد ردًّا وانصرفت حاملًا أوراقى، ومعها قنبلة القلق التى زرعها داخلى بهاجيجو بعبارته القلقة. مرت سنوات لم ألتقِ خلالها العم بهجت إلا على الورق، لكننى لم أنسَ صمته، ثم حزنه الغامض وهو ينطق العبارة المؤلمة، وكثيرًا ما أفكِّر فيها، وأخشى أن يكون على حق، وأن يكون أكثرنا هجومًا ومزايدة يخفى فى أعماقه رغبة خفية فى احتساء الشاى مع السلطة، لكنه يسقط رغبته ولعناته على الآخرين.