مع فجر أيام عبور الجيش المصرى قناة السويس وتحطيمه خط بارليف وبداية معركة كانت للتحرير لا للتحريك.... وَلدت صافيناز كاظم نوارة أحمد فؤاد نجم. اقترن أحمد فؤاد نجم بالكاتبة صافيناز كاظم، وكنا كلنا سعداء بهذا القران وكان الفرح فرحنا جميعا، أحبت صافيناز كاظم، أحمد فؤاد نجم حبا غير عادى اختلط فيه حب المرأة للرجل بالحب للوطن وبالحب للفن والشعر والإبداع، حب الفن المتمرد الذى يعبر عن الثورة ويحرض عليها، وكان ذلك الحب يظلله مجموعة من الأصدقاء الذين جمع بينهم حب الوطن وانتظار الثورة والخلاص... فالتفوا حول أغانى الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم ومحمد على، وكان هذا الثلاثى يطوف البلاد ليُغنى ويُنشد سرا وعلنا متنقلا بين بيوت الأصدقاء، وأحيانا فى جامعتى القاهرة وعين شمس. وكنا نتلقف ما تكتبه صافيناز كاظم فى مجلة «المصور» وفى غيرها لنقرأه بشغف شديد، هذه الفتاة العائدة من أمريكا بعد أن حصلت على الماجستير فى الأدب والنقد تكتب بأسلوب مختلف «غير عادى» كما يُنشد قرينها أحمد فؤاد نجم بعاميتنا المصرية المألوفة، ولكن بطريقة «غير عادية» يوظف كلمات الحياة اليومية توظيفا جديدا يعبر به عن الثورة والشوق للتغيير والسخرية من الانتهازية والرجعية وأصحاب النفوذ والثراء الحرام ويمجد فيه الشهداء والثوار بمن فيهم الذين سقطوا فى ساحة المعركة فى بلاد بعيدة عنا كجيفارا مثلا. ويطول الكلام لشرح ظاهرة «فؤاد نجم – الشيخ إمام»....... لكنه كان فنا مختلفا صادما فنا «غير عادى» يثير الدهشة والإعجاب فى نفس الوقت..... كنا نزور هذا العش الذى وُلدت فيه نوارة ونقرأ الصور الجميلة التى علقتها صافيناز على الحوائط، ونعيد مطالعة كاريكاتير صلاح جاهين الذى وضعه نجم على الحائط بجوار الباب ونسمع نجم يُنشد أشعاره، فنمتلئ حماسا للوطن وتشرق أمامنا شمس الثورة...... وقُبض على أحمد فؤاد نجم ودخل المعتقل وتنقل بين السجون وغاب عنا وترك غيابه بيننا فراغا وشوقا، فكنا نحاول أن نراه خلف الأسوار نطلب تصريحا للزيارة، فتأتى الموافقة وأحيانا لا تأتى، فنضطر إلى الالتفاف حول سور السجن لنقف فى الشارع تحت نافذة الزنزانة ننادى عليه فيطل علينا من بعيد يخاطبنا من خلف قضبان شباك الزنزانة، فنكاد نسمع صوته ونلتقط بعض الكلمات من بين صيحات المساجين الذين يبلغون رسائل إلى ذويهم..... ثم أفرج عنه وعاد إلى طريقه الذى أختاره لنفسه من أجل أن: «يعيش لحاجة عشان مصر تبقى حاجة» كما يقول هو لابنته حاجة حلوة كان يحلم بها لوطنه، فعاد الأمن يطارده ويسعى للقبض عليه مرة أخرى، فكنا نسعى إليه فى مخبئة وهو هارب نأخذ منه الأشعار التى زينت مسرحية «العقد» التى قدمناها فى قاعة حزب التجمع بوسط القاهرة، وكان الشيخ إمام لأول مرة يؤدى على المسرح دور الراوية فى مسرحية «العقد» التى اشترك فى كتابتها المرحومان إسماعيل العادلى وجلال الغزالى، ومثلت فيها الناشطة كريمة الحفناوى، معارضين سياسات أنور السادات الانفتاحية ومعاهدته المشؤومة مع العدو الصهيونى وتسليمه أوراق الصراع للغرب والأمريكان...... عندما اشتعلت شرارة العبور وانطلقت المدافع وصواريخ «سام» وعبرت مدرعات الجيش المصرى ودخلت سيناء: هنا وَلدت صافيناز نوارة أحمد فؤاد نجم..... وكانت نقابة الصحفيين تصدر جريدة صغيرة الحجم اسمها «المعركة» فكتبت فيها صافيناز مقالا عن الزهور التى تتفتح والورود التى سوف تنمو والنوار الذى سوف ينتشر فى الحقول...ربطت فيه بين ميلاد نوارة وميلاد مصر الجديدة.... سنوات مرت عربد فيها أنور السادات وانتهج سياسات اقتصادية معادية للفقراء، فهبت الجماهير فى يناير 1977 فى طول البلاد وعرضها، وكنا نطوف وسط القاهرة نهتف ضد أنور السادات وسياساته وانتعش فينا أمل الثورة الشعبية التى نحلم بها، وفُرض حظر التجول ونزل الجيش إلى الشوارع وخبأ فينا الأمل.... ولكن كانت نوارة تنمو وتكبر فرأيتها ذات يوم فى أرض المعارض وهى تتظاهر ضد سياسة التطبيع مع العدو الصهيونى.... ورأيتها مرات أخرى وهى تشارك فى مظاهرات واحتجاجات، وها هى اليوم فى أتون الثورة الشعبية المصرية تؤدى دورها الذى خُلقت له.... كم أتمنى أن يعود بنا الزمن إلى الوراء، وأظن أن صافيناز وعمنا نجم كذلك يتمنيان أن يعود بنا الزمن إلى يناير 1977، لكى تمتد انتفاضة الخبز وتشتعل، ونحن فى قلبها لتكون هى ثورة الخلاص ونحن فى عمر نوارة فى ذلك الزمان..... كان ذلك سيختصر من عمر مصر كل سنوات الظلم والذل والنهب والتجريف والخراب الذى حل بالمجتمع المصرى تحت وطأة النظام الذى لم يسقط بعد. إنه الزمن أو القدر أو التاريخ أو لا أعرف ماذا أقول!!؟ ولكن ها قد تحققت الأمنية بعد 33 عاما واشتعلت الثورة التى حلمنا بها وعملنا من أجلها.... وبرزت فيها نوارة كفتاة ثورية «غير عادية» أنجبها شاعر «غير عادى» تمارس العمل الوطنى بطريقة «غير عادية» فيها ابتكار وإصرار وتصميم على الهدف.... ولا غرابة فى هذا، فكل تقدم أو تطور فى تاريخ الإنسانية مرتبط بهؤلاء المبدعين «غير العاديين» كما يقول برنارد شو فى مسرحيته (عربة التفاح)....... أما أنت يا نوارة فإنك الابنة الشرعية لهذه الثورة أنت وجيلك لقد وُلدت على يدى هذا الجيش، وهو يعبر ويقاتل، وُلدت على أصوات المدرعات تزمجر وتقرقع تعبر قناة السويس لتجتاح سيناء، وُلدت على الصيحات المرعبة لجنود الصاعقة وهم يُغِيرون على شدوان، وُلدت على طنين صواريخ «سام» وهى تفجر طائرات العدو.... لم تولد فى عصر مزارع القوات المسلحة وعمارات القوات المسلحة وصالات أفراح القوات المسلحة وصاعقة القوات المسلحة التى تعرى الفتيات وتسحلهن وتدوسهن بالأقدام. أنت وجيلك رأيتم نور الحياة أيام صاعقة جلال هريدى وأحمد حلمى. إن انتفاضة الخبز فى يناير 1977 نمت بذرتها فيكم وعادت لتنمو من جديد وتتفتح كزنبقة كنوارة. ■ هذا المقال أنا مدين به للدكتور جلال أمين الذى كتب مقالا رائعا عن نوارة نجم جعلنى أنتفض لأمسك بالقلم بعد غياب.