بعد أن ظهرت فى الأفق دولة «داعش» أو دولة الخلافة، التى وعدت الناس بالسمن والعسل فلم يظفروا منها سوى بجز الرؤوس وجلد الأبدان والتسلط على مقدرات الناس، انتعشت مخاوف الأقليات الدينية، خصوصا المسيحيين فى سوريا والعراق أو اليزيديين، وبرز سؤال هو نتاج الصعود السياسى للإسلاميين، الذى وصل بفصيل منهم إلى الحكم، رغم فشلهم فى الإجابة عن سؤال الدولة سواء هم أو حركات الإسلام السياسى سلفية وإخوانية وجهادية أو حتى تكفيرية، إلا أن بعض الإسلاميين وتحديدا الإخوان، التيار الذى كان أكثر براعة فى إخفاء طموحاته السياسية وشكل الدولة التى يفكر بها، حاول التماهى مع الدولة القومية والدخول فى بناها، مستبطنا دولة أخرى لا تعرف تقاسم السلطات أو التوازن فى صناعة القرار، بعدما حاولوا من خلال دستورهم تقديم ولاية الفقيه بديلا عن فقه الولاية. كان حكم الإخوان إلى جانب تجاربهم فى السودان التى انتهت على يد الإسلاميين إلى دولتين كاشفا، شهدنا فى حكم الإخوان كيف تمدد التطرف فى حراسة الجماعة حتى قتل وسحل مواطنين مصريين، تبنوا المذهب الشيعى فى زاوية أبو مسلم دون أن تحرك الجماعة أو الرئيس ساكنا، وبدا أننا مقبلون على حكم فاشى يتحول فيه الشعب من غير الإخوان مسلمين وغير مسلمين إلى أقليات، وبدأت الأقليات الأخرى تسأل هل هذا هو الإسلام الذى جاور المسيحية عبر قرون؟ ما التصور الذى تملكه تلك الجماعات عن الإسلام؟ وما الموقف الحقيقى للإسلام من المواطنة التى تعنى المساواة الكاملة فى الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص والشعور بالمصير المشترك والهم القومى الواحد؟ تساءل المسيحيون بقلق هل المشكلة فى نصوص الدين التى تبرر بها «داعش» وأخواتها القتل والتنكيل، أم فى التأويل الذى يذهب بالنص إلى التكفير والتفجير واستحلال دم المخالف؟ أتصور أن الأمر يحتاج منا إلى مصارحة تأخرت لعقود، لقد تركنا التراث يحوى الغث والسمين، وفى ظل غلق باب الاجتهاد، والغربة الطويلة عن مرامى وأهداف الدين الحقيقية، وتشظى الأمة تحت عناوين سياسية إلى جماعات وأحزاب، ظل النص الدينى بالتأويل المتعسف خادما لسلطة الحكم مرة وسلطة المعارضة أخرى، وأسهم التوظيف السياسى للمؤسسة الدينية فى إضعافها فى مواجهة مجموعات التطرف، التى قدمت علماءها ودعاتها باعتبارهم مستقلين عن السلطة السياسية، مما أتاح لخطابهم قبول شرائح واسعة، فقدت الثقة فى المؤسسات الرسمية فأصبحت المواطنة فى وعى السلفيين دعوة جاهلية منتنة، ذمها الرسول بقوله دعوها فإنها منتنة، فى تزييف لتصور المسلمين عن القبلية التى جاء الإسلام ليقضى عليها، ويؤسس لنمط من الشراكة الإنسانية بين بنى البشر حين يعملون معا لرفعة وطن واحد، تجاهل هؤلاء أن الدين كان أساس الوحدة السياسية بين قبائل متنازعة متنافرة جعل الإسلام لها دولة، فلم تكن المواطنة بهذا المفهوم سوى تكريس لواقع جديد لم يعرفه عرب الجزيرة، حلت فيه الدولة محل القبيلة التى رسمت وثيقة المدينة ملامحها بالنص على مفهوم الأمة الواحدة المتنوعة الأديان والثقافات، فى دولة الرسول فى المدينة التى ضمت المسلمين واليهود، شوش السلفيون هذا المفهوم فى الأذهان بالحديث عن الولاء والبراء، وكيف أنه وفق تصورهم يشرعون الطائفية والتمييز، وما جاء الإسلام إلا ليحرر الناس، ويرفع راية المساواة بين البشر على الأرض، تاركا التمييز بينهم لتقدير الله لمكانتهم فى الآخرة بقوله تعالى «إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، وبينما كان تصور السلفيين للمواطنة هكذا، تمتع الإخوان بازدواجية معهودة فى الخطاب بخصوص تلك القضية، فبينما تملقوا الغرب تحديدا بالحديث عن الإيمان بها، صدّروا خطابا آخر للقواعد التى تسلفت فى العقود الأخيرة بتبنى نفس منطق السلفيين وتصورهم، بينما كان الجهاديون أكثر صراحة وربما إجراما فى استهداف الأقليات واستحلال الدماء والأموال وربما الأعراض، إن المواطنة التى هى الضمانة الرئيسية لكل مواطنى الدولة فى القيام بواجباتهم نحوها على قاعدة الكفاءة والجدارة، بما يحقق للدولة النهوض والتقدم، المعنى الذى يصطدم فى وعى تلك الحركات التى تمددت واتسعت رقعة خطابها، بالشكل الذى أسهم فى بروز مزاج شعبى طائفى، هو ابن شرعى للجهل وغياب المرجعية الإسلامية الراسخة والمؤثرة، التى مثلها الأزهر عبر عقود، إن الخطر الذى تمثله تلك الأفكار أنها كادت تدخل حيز التنفيذ عندما وصلت مجموعات التطرف إلى الحكم، كما أنها تحولت إلى ما يشبه الثقافة الجمعية لقطاع واسع من المواطنين، بالشكل الذى يجعل أى نظام سياسى غير قادر على أن يحلق بجدية تجاه المواطنة، تملقا للعوام وتحليقا مع تلك الثقافة المتخلفة التى عطلت مسيرتنا كأمة، أنا لا أتصور حلا لتلك المعضلة، إلا عبر قيام دولة قومية حقيقية بمؤسسات قادرة على النهوض بمهمتها بشجاعة واقتدار، خصوصا مؤسسات التنشئة الاجتماعية، ومؤسسة دينية رسمية تقود تحالفا من علماء المسلمين الأكثر استنارة، القادرين على مراجعة تراثنا الإسلامى، وفرز الغث من السمين والدفاع عن الدولة القومية هو الضمانة الرئيسية التى تحول دون تحويل الأمة إلى قبائل جهولة متنافرة ثم فى الأخير متحاربة.