السعادة سلعة بشرية نادرة، شهرتها من شهرة الموت، وبهجتها حلم يبحث عنه كل إنسان فى كل زمان ومكان.. الجميع يطلبها ويبحث عنها ويتلمسها فى أشياء وفلسفات وأمنيات وأفعال أيضًا. لكن خطيئة البشرية الكبرى أنها تصورت أن السعادة مرتبطة بالمال، كيف والسعادة أقدم من المال وأخلد منه أيضا؟! لكن فى كل عصر نسأل، نفس السؤال وتكون الإجابة ذاتها تتكرر، وكأننا نسأل لتطمئن قلوبنا. فى الأسبوع الماضى طرحت ال«بى بى سى» سؤالا: هل يجلب المال السعادة؟ على موقع كورا (Quora) المتخصص فى تلقى الأسئلة وإتاحة الفرصة للجمهور للإجابة عنها، لمعرفة ما إذا كان الأمر يستحق بالفعل أن نسعى إلى الثراء كطريق للسعادة. تنوعت إجابات رواد الموقع، فكارول وجدت أن انتقال أسرتها من الفقر إلى الثراء، جعل كل أفراد الأسرة مُدمِنى مال وبمرور الوقت، تلاشت العلاقات الأسرية، ووجدت فى النهاية الراحة والقناعة أهم من الثراء. مورات موريسون أصبح ثريًّا بعد أن باع شركته قال عن تجربته «المال يجلب الراحة، لكن الراحة لا تعنى بالضرورة السعادة أو الرضى. لقد شعرت بأننى شخص تافه بعد أن أصبحت ثريًّا. من المهم أن تكون مرتاحًا، لكن الأكثر أهمية هو أن تكون سعيدا». بول بوكهايت: يمكن للثروة أن تمنحك الحرية للتركيز على تحقيق ما تصبو إليه ولكن ليس هذا هو السعادة. مستخدم آخر قال: غالبية الناس يتخيلون أن الأغنياء يعيشون حالة من راحة البال، فليس مسموحًا فى نظر العَّامة أن يكون لديك مشكلات. الغنى لا يحوز على تعاطف العامة، والثروة تفسد العلاقات مع الأصدقاء والعائلة. فمعظم الناس يتطلعون للاستفادة منك ماديًّا، وقد يصعب عليك أن تجزم ما إذا كان اللطف الذى يبديه أحدهم سببه محبته لك، أم أنه يطمع فى ما لديك من مال، وهذا الشك والتوجس يقتل سعادتك بالمال. أما كريستوفر أنجوس الذى جمع ثروته من بيع أربعة مشاريع صغيرة، فيقول: المال يمكننى من خوض تجارب لا يمر بها كثير من الناس فى حياتهم، وهذا مصدر سعادة. مستخدم لم يذكر اسمه: «مع وجود الثروة يتغير مستوى التوقعات، ويصبح كل شىء دون المستوى الذى حددته غير قادر على إثارة إعجابك، ولا يحقق لك الرضا الذى تنشده، وتوفر المال لشراء أى شىء مادى أو معنوى يفقدك عنصر الإثارة. ويقول مستخدم آخر: أصبحت ثريًّا وأنا فى منتصف الثلاثينيات من العمر. لكننى أشعر أن هذا ليس هدفًا يستحق العناء، الوصول إلى الثروة بالتدريج أفضل لمستقبلى العملى، ولحياتى بشكل عام. وأن تكون ثريًّا فذلك أمر قد لا يستحق العناء، لكنك إذا أصبحت ثريًّا، فسوف ترغب فى البقاء كذلك إلى الأبد وهذا مرهق ويُتعِس. الفلاسفة والمفكرون لهم إجابات أكثر عمقًا عن علاقة السعادة بالمال، الفيلسوف البريطانى برتراند راسل، كتب عام 1930 كتابًا صغيرًا ومهمًا بعنوان «اقتناص السعادة»، كتب راسل عن المنغصات، التى تحول دون السعادة، وعن الوسائل التى تساعد على تحقيقها، وقال إن المنافسة من أهم منغصات السعادة.. «فالناس تخوض صراعات عنيفة فى الحياة ليس لأنهم لا يملكون طعام الإفطار، بل لأنهم يريدون أن يحققوا نوعًا من التفوق على جيرانهم. جذور المتاعب تصدر عن الاهتمام المتزايد للتسابق على النجاح التنافسى باعتباره مصدرًا رئيسيًّا للسعادة، ولا أنكر أن الشعور بالنجاح من مصادر السعادة، وأن المال كفيل لدرجة كبيرة بزيادة سعادة الفرد، لكننى لا أعتقد أنه إذا ما تجاوز هذا الحد المعين لا يكون عاملا من عوامل سعادته، فالنجاح والمال ليسا سوى عنصرين من عناصر السعادة، وسيكون الثمن غاليًا إذا ضحينا بجميع العوامل الأخرى للحصول عليهما». بعد 75 عامًا على كتاب راسل لم يفقد الكتاب الصغير قيمته، وأكدتها أبحاث وتجارب كثيرة من بينها دراسة للمفكر البريطانى ريتشارد لايارد، وقد كتب لايارد فى عام 2005 كتابًا من أكثر الكتب مبيعًا فى العالم بعنوان: «ثمن السعادة» قال فيه: إن النمو الاقتصادى لا ولن يسهم فى جلب المزيد من السعادة، لأننا مهتمون على الأغلب بوضعنا النسبى (أى مستوى دخلنا عندما نقارنه بالآخرين). إن حقيقة كون أحدهم يجنى دخلاً أكبر -مما يجعله أكثر سعادة- تجعل الآخرين أقل سعادة، الأمر الذى يضطرهم إلى العمل بجد أكبر للحفاظ على وضعهم الحالى النسبى. فى النهاية فإننا جميعًا أكثر ثراءً، ولكننا لسنا أسعد من ذى قبل، حيث إننا لا نستطيع جميعًا أن نصبح أكثر ثراءً من الآخرين. وهذا يعنى أن البحث عن الثراء لن يؤدى أبدًا إلى مستقبل أفضل، بل إلى مزيد من الجرى واللهاث وراء حلم قد نحقق منه اليسير، لكننا نخسر سعادتنا وحياتنا نفسها، خصوصًا أن المؤشرات الاقتصادية فى الخمسين عامًا الماضية تؤكد أن معدلات الثراء الفردية ارتفعت فعلا فى العديد من المجتمعات، ومع ذلك ارتفعت معها معدلات الجرائم ومشكلات الاكتئاب وإدمان الكحول والمخدرات. وأضاف لايارد: صحيح أن غالبية الناس يشعرون بالتعاسة إذا كانت مواقعهم أسوأ من الآخرين، لكن هذا يحدث بسبب التنافس المقيت الذى يجعل من حياتنا مجرد «سباق فئران». فكلما اعتاد الناس على دخل أعلى، يبحثون عن دخل إضافى، وبالتالى يمضون وقتا أكثر فى العمل، مما لا يتناسب مع الحفاظ على سعادتهم. والتقليل من العمل الشاق وتوفير وقت أكبر للأمور التى تجعلنا أكثر سعادةً، مثل العائلة والأصدقاء.. ببساطة لأن المال قد يشترى بعض الاحتياجات من ملبس وغذاء وكماليات، لكنه أبدا أبدا لا يشترى السعادة؟ فهمتم أيها السادة.... هى أشياء لا تُشْترى