داخل مبنى مجلس الشعب كانت تجرى أحداث ضاحكة فى أول مجلس نواب تشهده مصر بعد الثورة وتصور الكثيرون فى أثناء بث تلك الوقائع أن العرض حصرى على «موجة كوميدى».. خارج جدران المجلس عايشنا الواقع حيث كانت هناك أكثر من مظاهرة يعلو صوتها، أسر الشهداء يتساءلون عن حق الدم، وبجوارها مسيرة المبدعين ترفع شعار الحرية. على أطراف المظاهرات كانت الناس تتساءل عن معنى تلك الحرية التى يطالب بها المبدعون لأن المفهوم القاصر يخلط بينها وبين الإباحية، يتصور البعض أن تلك الحرية تعنى مشاهد العُرى والجنس. هذا هو الانطباع الذى لا يمكن تجاهله ويحرك بوصلة رجل الشارع فى تفهمه لتلك المظاهرات. الناس أو نسبة غالبة منهم تعتقد أن الحرية التى يطالب بها الفنانون خصوصا السينمائيين هى حرية تبحث عن التجاوز الأخلاقى. المتفرج العادى الذى لديه ملاحظات سلبية على ما يقدمه خالد يوسف أو إيناس الدغيدى أو الراقصة دينا يعتقد أن التيار الإسلامى من خلال الأغلبية التى حققها فى مجلس الشعب سوف يحميه من كل ذلك، ولهذا ينظر بقدر كبير من الريبة إلى من يرفع شعار الحرية وينتظر بفرح ولهفة المنقذ القادر على أن يمنع ويحذف! الثورة منذ الشرارة الأولى رفعت شعار «عيش، حرية، عدالة اجتماعية» الخبز هو الوجه الآخر للحرية.. الإنسان المصرى يجب أن يصل إليه أن الحرية التى نطالب بها للمبدع لا تنفصل عن حريته، وأن رغيف العيش المغموس بالحرية هو الهدف الأسمى. أغلب فئات المجتمع مع الحرية ولكنهم يتوجسون منها عندما تقترن بالفن ومن ملاحظاتى فى أثناء تدريسى مادة النقد الفنى فى كلية الإعلام أن الطلبة تحكمهم وتتحكم فيهم فى التعاطى مع الفنون معاييرُ أخلاقية متحفظة فى مجملها وخادعة فى قسط وافر منها. هم أسرى نظرة تقيّم العمل الفنى بمدى التزامه بتلك المعايير التى نشؤوا عليها. محاولاتى دائما هى أن أُظهر للطلبة وحملة أقلام النقد والصحافة فى الأيام القادمة أنه لا يوجد تناقض بين الفن والأخلاق فى معناها المباشر ولكن الفن لا يقيَّم بتلك المعايير، إنه فقط يخضع لعلم الجمال «الاستاطيقا» هذا هو ما يتوقف عنده المتذوق إذا أراد أن يعيش الحالة الفنية. هل يدرك الناس ذلك؟ القضية تبدو أشبه عند البعض بأنها أقرب إلى الفئوية منها إلى قضية المجتمع ولن يستطيع الفنان أو المثقف أن يكسب أرضا إلا إذا كان الشارع إلى جانب الفنان. كان فى مظاهرة المطالبين بالحرية وزير الثقافة الحالى د.شاكر عبد الحميد، بينما مجلس الشعب اختار للثقافة والإعلام محمد عبد المنعم الصاوى الذى شغل فى أول حكومة بعد الثورة موقع وزير الثقافة لأيام محدودة واشتعلت المظاهرات ضده فاضطر إلى مغادرة موقعه. من المؤكد أن الصاوى لديه ثأر مع من اعتقد أنهم أطاحوا به هو قد أشار فى مقال له بعد مغادرته الكرسى ببضعة أيام إلى أنه اطلع على العديد من الوثائق والملفات تدين من هاجموه وأنه سوف يرد فى التوقيت المناسب. هل حان الوقت خصوصا أن لجنة الثقافة والإعلام منوط بها مراقبة الوزارتين؟ الصاوى بطبعه يميل فى تعاطيه مع الفنون من خلال ساقية «الصاوى» إلى ممارسة الرقابة الصارمة صحيح أنه لعب دورا مؤثرا خلال السنوات الأخيرة فى مجال الثقافة والفنون وبمبادرة شخصية عندما استطاع أن يحيل «خرابة» تقع تحت كوبرى 26 يوليو إلى مركز إشعاع ثقافى إلا أنه أيضا لم يتخل فى ممارسته القيادة عن تلك النظرة المتحفظة للفن والثقافة وكثيرا ما تدخل لإيقاف بعض الأنشطة فى الساقية! الوزير السابق صار الآن مسؤولا على متابعة أداء الوزارتين وهو يملك أوراقا ضد الكثيرين ربما كانت الأيام القليلة التى أمضاها فى الوزارة بددها فى تصوير تلك الوثائق التى سيحيلها إلى قنابل موقوتة. طبول المعركة الثأرية تدق على الأبواب متزامنة مع قيود صارمة على كل الفنون. ويبقى الطرف الأهم فى كل ما يجرى، إنه الناس.. إلى من ينحاز المواطن البسيط، إن هذا هو الهدف الأساسى الذى ينبغى أن يراهن عليه المبدعون لتصل تلك القناعة إلى رجل الشارع وهو أن الدفاع عن حرية الإبداع هو دفاع عن رغيف العيش!