«أنا يوسف.. يوسف عبد الحميد السويفى.. عندما أهمس باسمى بينى وبين نفسى يخيل إلىّ أنى أردد اسم شخص آخر لا أعرفه، شخص غريب عنى، لا أحبه ولا أكرهه، لكنه يزاحمنى ويرتبط بى، ويلازمنى لسبب غامض لا أفهمه.. مَن أنا؟ من يكون هذا اليوسف عبد الحميد السويفى، هل هو ذلك الصحفى المشهور رئيس تحرير جريدة (الأيام)، إن صوتا ملحا يهمس فى قلبى ليل نهار، يسألنى، هل حقيقة أنت يوسف الذى يعرفه الناس، هل حقيقة أنت يوسف الذى يجلس إلى مكتبه ويدق الأجراس، ويتكلم فى التليفونات، ويكتب المقالات، ويحضر الحفلات، ويقولون عنه إنه ناجح وإنه وصل؟»، هكذا بدأ الروائى فتحى غانم القسم الرابع والأخير من روايته الشهيرة «الرجل الذى فَقَدَ ظله» فى 10 أغسطس 1961 فى مجلة «صباح الخير»، والتى كان يرأس تحريرها فى ذلك الوقت، وراح الناس يتكهنون مَن هو يوسف عبد الحميد السويفى، الصحفى المشهور، والذى صعد على أكتاف أستاذه محمد ناجى الصحفى الكبير، وأحد مهندسى الصحافة فى مصر، وراسمى خطوطها العريضة، وناجى ليس أستاذا ليوسف السويفى فحسب، بل هو الأستاذ بالألف واللام لمعظم القيادات والعلامات الصحفية خلال تلك المرحلة، والكل يكنّ له كامل التقدير والاحترام، ولكن علاقة يوسف بناجى كانت أكثر تعقيدا من غيرها كما يقول هذا القِسم المثير من الرواية، ولا مجال هنا لشرح كل التفاصيل التى يمكن الرجوع إليها فى الطبعة الكاملة للرواية، أقول الطبعة الكاملة، لأن الرواية التى نشرت مسلسلة فى مطلع عقد الستينيات، تعرضت لمجزرة حقيقية عندما نشرت فى أربعة أجزاء، وصدرت عن دار «الجمهورية» بعد ذلك، إذ تم حذف أكثر من مئتى وخمسين صفحة، وبالتأكيد أن ذلك كان تنكيلا مفرطا بالكاتب فتحى غانم، الذى أراد بروايته هذه أن يفضح العالم الصحفى وكواليسه وتربيطاته ومؤامراته الخبيثة، ورغم أن فتحى غانم الذى يبدو وكأنه عاش مدللا من السلطات السياسية المتعاقبة، وترأس تحرير عدة صحف ومجلات، وترأس مؤسسات صحفية، وحاز موقع نقيب الصحفيين، لم يكن مدللا بأى شكل من الأشكال، وذلك منذ أن التحق رسميا بالعمل الصحفى، وهو فى صراعات عنيفة مع أساطين وكتّاب لهم سطوة فى مجالات الأدب والصحافة والسياسة، فهاجم طه حسين فى ذروة مجده وسلطته الفكرية والأدبية، كذلك هاجم محمود أمين العالم عندما كان العالم ورفاقه فى شهر عسل مؤقت مع السلطة السياسية، اختلف بشدة مع إحسان عبد القدوس الذى كان يغير منه لتفوّقه عنه فى مجال الرواية، وكانت مجلة «صباح الخير» تلقى رواجا وتوزيعا كبيرين عندما كان فتحى غانم ينشر رواية مسلسلة، وكان هذا الحظ لا يلقاه إحسان نفسه، لذلك منعه إحسان من الكتابة فى المجلة، ولكن فاطمة اليوسف وقفت ضد هذا القرار، وأعادت فتحى مرة أخرى إلى الكتابة، وكان قد اتجه إلى الكتابة الأدبية والسياسية، بعد أن كان يكتب بابا فى مجلة «آخر ساعة» فى موضوعات أخرى ويوقعها ب«إخصائية تجميل»، وكان قبل ذلك بداية حياته فى الأربعينيات مع رفيقَيْه وزميليه أحمد بهاء الدين وعبد الرحمن الشرقاوى كمحقق فى دار المعارف، ولكن أحمد بهاء الدين استكتبه فى مجلة «الفصول» التى كانت تصدر فى الأربعينيات، وكان بهاء يدير تحريرها نيابة عن رئيس تحريرها وصاحبها محمد زكى عبد القادر، ونعود إلى رواية «الرجل الذى فَقَدَ ظله»، وحكاية يوسف التى تكهن العارفون ببواطن الأمور، بأن يوسف السويفى يرمز إلى الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، ومحمد ناجى يرمز إلى الكاتب محمد التابعى، وكان فتحى غانم تطرق إلى هذا الأمر فى حوار مع المستشرقة مارينا ستاج، وقال لها باعتقادات الناس، ولكنه لم ينفِ ولم يؤكد، بل إنه ذكر أنه زار محمد حسنين هيكل فى وقت نشر الرواية، حتى لا يتطرق إلى ذهن هيكل هذا الهاجس الذى يهمس به البعض، ويعلنه البعض الآخر، ورغم أن زيارة فتحى غانم لهيكل عملت على تخفيف حدة الإشاعة، فإن واقعة الحذف هذه أعادت الشائعة إلى الظهور مرة أخرى، ولم تكن واقعة الحذف هذه واقعة فريدة من نوعها فى أدب فتحى غانم، ولكن كانت الواقعة الأخرى تخص رواية «تلك الأيام»، وكانت تتقاطع بشكل كبير مع الأحداث السياسية التى كانت تدور حول صياغة الدستور فى ذلك الوقت، وكان بطلها أستاذ تاريخ مرموقا، ونشرت الرواية مسلسلة فى مجلة «صباح الخير» عام 1963، وعندما نشرت فى كتاب كامل، تعرضت مثل «الرجل الذى فقد ظله» لذات المجزرة، وحذف منها 137 صفحة، وزعم مدير التحرير آنذاك بأن سبب الحذف كان اقتصاديا، لأن هناك أزمة طاحنة فى الورق، والجدير بالذكر أن مدير التحرير الذى اتخذ أو نفّذ قرار الحذف، وهو القاص والصحفى إلهامى سيف النصر، كان أحد المعتقلين السياسيين فى تغريبة اليسار الكبرى من عام 1959 حتى 1964، ويعرف معنى الحرية والقمع والاستبداد، وأعتقد أن كاتبا مصريا آخر لم يتعرض أدبه إلى هذه المجازر، وتبقى واقعة أخرى تخص رواية «حكاية تو»، والتى كتبها فتحى غانم ونشرها مسلسلة عام 1974 فى مجلة «روزاليوسف»، وكانت الرواية تتصدى لكل أشكال التعذيب الذى تعرض له الشيوعيون فى العهد الناصرى، وكانت الرواية تدور حول شخصية شهدى عطية الشافعى، ولأسباب عديدة، تعطَّل نشر هذه الرواية، حتى صدرت عن دار الهلال عام 1987 بعد أن كتب النقد فاروق عبد القادر مقالا عنها، وسعى لنشرها فى ذلك الوقت، بعد أن تعطلت أربعة عشر عاما لأسباب غامضة. والجدير بالذكر أن رواية «تلك الأيام» نشرت كاملة فى عام 1971، كنوع من التنكيل بعهد عبد الناصر، وليس انتصارا للحرية، وليس من أجل عيون فتحى غانم الذى كان يجلس فى بيته دون عمل ودون كتابة، وعندما عرضوا عليه العودة إلى الصحافة، قالوا له: «عد إلى الصحافة، لكن دون أن تكتب»، وبعد رحيله مباشرة نشرت رواية «تلك الأيام» عام 1999 فى مكتبة الأسرة بمقدمة نقدية للدكتور جابر عصفور، دون أن يذكر لما تعرضت له من حذف وتشويه حين نشرها، وأظن أنه لم يكن يعرف الواقعة، لأن واقعة كهذه لا يمكن أن تمر دون أن يناقشها الدكتور جابر عصفور.