تحيط خاصرتها بالألغام، وتنفجر لا هو موت، ولا هو انتحار إنه أسلوب غزة فى إعلان جدارتها بالحياة منذ سنوات ولحم غزة يتطاير شظايا قذائف لا هو سحر ولا هو أعجوبة إنه سلاح غزة فى الدفاع عن بقائها، واستنزاف العدو منذ سنوات والعدو مبتهج بأحلامه.. مفتون بمغازلة الزمن إلا فى غزة لأن غزة بعيدة عن أقاربها، ولصيقة بالأعداء لأن غزة جزيرة كلما انفجرت (وهى لا تكف عن الانفجار). خدشت وجه العدو، وكسرت أحلامه، وصدّته عن الرضا بالزمن. لأن الزمن فى غزة شىء آخر.. لا يأخذ الأطفال من الطفولة إلى الشيخوخة لكنه يجعلهم رجالًا فى أول لقاء مع العدو إن غزة لا تباهى بأسلحتها وثوريتها وميزانيتها. إنها تقدّم لحمها المر، وتتصرّف بإرادتها، وتسكب دمها غزة لا تتقن الخطابة.. ليس لغزة حنجرة.. مسام جلدها هى التى تتكلم عرقًا ودمًا وحرائق. من هنا يكرهها العدو حتى القتل، ويخافها حتى الجريمة، ويسعى إلى إغراقها فى البحر، أو فى الصحراء، أو فى الدم. ليست غزة أجمل المدن ليس شاطئها أشد زرقة من شواطئ المدن العربية وليس برتقالها أجمل برتقال على حوض البحر الأبيض. وليست غزة أغنى المدن، وليست أرقى المدن، وليست أكبر المدن، لكنها تعادل تاريخ أمة. إنها أشد قبحًا فى عيون الأعداء، وفقرًا وبؤسًا وشراسة. لأنها أشدنا قدرة على تعكير مزاج العدو وراحته، لأنها كابوسه، لأنها برتقال ملغوم، وأطفال بلا طفولة، وشيوخ بلا شيخوخة، ونساء بلا رغبات. لأنها كذلك فهى أجملنا، وأصفانا، وأغنانا، وأكثرنا جدارة بالحب. نظلم غزة حين نحوّلها إلى أسطورة لأننا سنكرهها حين نكتشف أنها ليست أكثر من مدينة فقيرة صغيرة تقاوم. وحين نتساءل: ما الذى جعلها أسطورة؟ سنحطّم کل مرايانا ونبكى، لو كانت فينا كرامة، أو نلعنها لو رفضنا أن نثور على أنفسنا ونظلم غزة لو مجّدناها، لأن الافتتان بها سيأخذنا إلى حد الانتظار، وغزة لا تجىء إلينا، غزة لا تحررنا، ليست لغزة خيول ولا طائرات ولا عصى سحرية ولا مكاتب فى العواصم، إن غزة تحرر نفسها من صفاتنا ولغتنا ومن غزاتها فى وقت واحد وحين نلتقى بها -ذات حلم- ربما لن تعرفنا، لأن غزة من مواليد النار ونحن من مواليد الانتظار والبكاء على الديار. لم تتحوَّل المقاومة فى غزة إلى وظيفة أو مؤسسة، لم تقبل وصاية أحد، ولم تعلّق مصيرها على توقيع أحد، أو بصمة أحد، ولا يهمها کثيرًا أن نعرف اسمها وصورتها وفصاحتها، فهى لم تصدق أنها مادة إعلامية، ولم تتأهّب لعدسات التصوير، ولم تضع معجون الابتسام على وجهها. لا هى تريد.. ولا نحن نريد. من هنا تکون غزة تجارة خاسرة للسماسرة، وكنزًا معنويًّا وأخلاقيًّا لكل العرب. ومن جمال غزة أن أصواتنا لا تصل إليها، لا شىء يشغلها، لا شىء يدير قبضتها عن وجه العدو، لا أشكال الحکم فى الدولة الفلسطينية التى سننشئها على الجانب الشرقى من القمر، أو على الجانب الغربى من المريخ، إنها منكبة على الرفض. قد ينتصر الأعداء على غزة كما ينتصر البحر الهائج على جزيرة، قد يقطعون کل أشجارها، قد يكسرون عظامها، قد يزرعون الدبابات فى أحشاء أطفالها ونسائها، وقد يرمونها فى البحر أو الرمل، أو الدم. لكنها لن تكرر الأكاذيب ولن تقول للغزاة: نعم. ستستمر فى الانفجار لا هو موت ولا هو انتحار لکنه أسلوب غزة فى إعلان جدارتها بالحياة. * المقال لمحمود درويش - من يوميات الحزن العادى (بتصرُّف يسير).