للمرة الثانية يثبت شعب غزة أنه أقوى من الموت، ومن أكثر شعوب الأرض تمسكاً بالحياة، لذا أرشحه للحصول على جائزة نوبل للسلام حتى يسمع العالم كله عن قضية شعب أعزل يحارب بصدور عارية، رغم وجوده تحت الحصار، آلة العدوان والحرب الجهنمية لأكثر دول العالم إجراماً وعنصرية. كنت أظن أن إسرائيل تعلمت الدرس من حربها الإجرامية السابقة على القطاع، لكننى سرعان ما تذكرت أن دولة تدار بعقلية لص قاتل لا تستطيع أن تستخلص أى دروس صحيحة. لذا أتمنى أن تتلقى اليوم درساً آخر أشد قسوة، لعلها تفيق. حين كنت أتهيأ، من خلال هذه السطور، لتوجيه تحية خاصة لأهالينا فى غزة، وقعت عيناى على كلمات الشاعر الكبير محمود درويش، ولأننى لم أجد أفضل منها تعبيراً عما يجيش فى أعماقى، قررت أن أخلى لها هذه المساحة لأذكّر القارئ فى الوقت نفسه بشاعر عبقرى. يقول محمود درويش عن غزة: «تحيط خاصرتها بالألغام.. وتنفجر.. لا هو موت.. ولا هو انتحار. إنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة. منذ أربع سنوات ولحم غزة يتطاير شظايا قذائف. لا هو سحر ولا هو أعجوبة، إنه سلاح غزة في الدفاع عن بقائها وفي استنزاف العدو. ومنذ أربع سنوات والعدو مبتهج بأحلامه. مفتون بمغازلة الزمن.. إلا في غزة لأن غزة بعيدة عن أقاربها ولصيقة بالأعداء.. لأن غزة جزيرة کلما انفجرت، وهي لا تکف عن الانفجار، خدشت وجه العدو وکسرت أحلامه، وصدته عن الرضا بالزمن لأن الزمن في غزة شىء آخر.. لأن الزمن في غزة ليس عنصراً محايداً. إنه لا يدفع الناس إلى برودة التأمل.. ولکنه يدفعهم إلى الانفجار والارتطام بالحقيقة. الزمن هناك لا يأخذ الأطفال من الطفولة إلى الشيخوخة، ولکنه يجعلهم رجالاً في أول لقاء مع العدو. ليس الزمن في غزة استرخاء ولكنه اقتحام الظهيرة المشتعلة. لأن القيم في غزة تختلف.. تختلف.. تختلف. القيمة الوحيدة للإنسان المحتل هي مدى مقاومته للاحتلال.. هذه هي المنافسة الوحيدة هناك. وغزة أدمنت معرفة هذه القيمة النبيلة القاسية.. لم تتعلمها من الکتب ولا من الدورات الدراسية العاجلة ولا من أبواق الدعاية العالية الصوت ولا من الأناشيد. لقد تعلمتها بالتجربة وحدها وبالعمل الذي لا يکون إلا من أجل الإعلان والصورة. إن غزة لا تباهى بأسلحتها وثوريتها وميزانيتها. إنها تقدم لحمها المر وتتصرف بإرادتها وتسکب دمها. وغزة لا تتقن الخطابة.. ليس لغزة حنجرة.. مسام جلدها هى التي تتکلم عرقاً ودماً وحرائق. من هنا يکرهها العدو حتى القتل. ويخافها حتى الجريمة. ويسعى إلى إغراقها في البحر أو في الصحراء أو في الدم. من هنا يحبها أقاربها وأصدقاؤها على استحياء يصل إلى الغيرة والخوف أحياناً، لأن غزة هي الدرس الوحشى والنموذج المشرق للأعداء والأصدقاء على السواء. ليست غزة أجمل المدن.. ليس شاطئها أشد زرقة من شواطئ المدن العربية، وليس برتقالها أجمل برتقال على حوض البحر الأبيض. وليست غزة أغنى المدن.. وليست أرقى المدن وليست أکبر المدن. ولکنها تعادل تاريخ أمة. لأنها أشد قبحاً في عيون الأعداء، وفقراً وبؤساً وشراسة. لأنها أشدنا قدرة على تعکير مزاج العدو وراحته، لأنها کابوسه، لأنها برتقال ملغوم، وأطفال بلا طفولة، وشيوخ بلا شيخوخة، ونساء بلا رغبات، لأنها کذلك فهي أجملنا وأصفانا وأغنانا وأکثرنا جدارة بالحب. نظلمها حين نبحث عن أشعارها فلا نشوهن جمال غزة، أجمل ما فيها أنها خالية من الشعر، في وقت حاولنا أن ننتصر فيه على العدو بالقصائد فصدقنا أنفسنا وابتهجنا حين رأينا العدو يترکنا نغني.. وترکناه ينتصر ثم جفننا القصائد عن شفاهنا، فرأينا العدو وقد أتم بناء المدن والحصون والشوارع. ونظلم غزة حين نحولها إلى أسطورة لأننا سنکرهها حين نکتشف أنها ليست أکثر من مدينة فقيرة صغيرة تقاوم. نستكمل غداً... نقلاً عن المصرى اليوم