الفصل الأول صديقتي السرية المفضلة Not yet ديسمبر 2008 ها نحن نغلق الدفتر لعام 2008 بمحرقة غزة ، الذي يتلوأ تحت عنوانها العديد من الأكليشيهات ،لذلك الجرح الغائر مساحة تسري من جديد علي نحو لا نهائي . " الفنانون يتضامنون مع غزة . - لا للتطبيع ....... لا للعدوان ........نعم للوحدة وفتح المعابر . - أبطال غزة يروون مشاهد من يوم القيامة . - غزة ...... وجع في القلب . - مثقفون وأدباء ، الحكام العرب ...متخاذلون ، متواطئون ، أنذال . - مجزرة غزه كشفت خيبة الأنظمة العربية . - البابا شنودة ألغي احتفالات عيد الميلاد تضامنا مع غزة . - حصيلة مجزرة غزة في اليوم السابع 428 شهيدا و 2200 جريح إسرائيل تحاصر الأقصي ... والأمن المصري يمنع المصلين من دخول مسجدي الأزهر والفتح . كتب مجموعة من الصحفيين : وشهدت مصر للمرة الأولي منذ سنوات طويلة مظاهرات بهذا العدد الضخم في ميدان رمسيس، والشوارع المتفرعة منه ، رغم الملاحقات الأمنية التي جعلت المشهد يبدو وكأنه حرب شوارع ، غير أن المشهد الآتي الذي سيستمر في الذاكرة المصرية لسنوات هو مشهد اقتحام أفراد الأمن الذين يرتدون الملابس المدنية ، الجامع الأزهر بالأحذية ، لملاحقة المصريين واعتقالهم ومنعهم من التظاهر . - 500 ألف قبطي بسوهاج ، صلوا من أجل غزه أثناء احتفالهم بعيد الميلاد وطالبوا بوقف العدوان . الهجمات الإسرائيلية مستمرة ..... وغزة مأساة وخلافات الحكام العرب ، ومظاهرات الغضب مشتعلة ...... ومصر الرسمية باردة ! وأخيراً ما نشيت لفت نظري ،وأغرقني بضحكة بائسة شديدة المرارة . - البيت الأبيض ينعي قطة ابنتي بوش ... ويتجاهل ضحايا غزة ليست غزة أجمل المدن .ليس شاطئها أشد زرقة من شواطئ المدن العربية الأخري . وليس برتقالها أجمل برتقال في حوض البحر المتوسط . وليست غزة أغني المدن وليست أرقي المدن . وليست أكبر المدن ولكنها تعادل تاريخ أمة لأنها أشدها قبحاً في عيون الأعداء ، وفقراً وبؤساً وشراسة .... لأنها أشدنا قدرة علي تعكير مزاج العدو وراحته لأنها كابوسه ، لأنها برتقال ملغوم ، وأطفال بدون طفولة ، وشيوخ بلا شيخوخة ونساء بلا رغبات . لأنها كذلك فهي أجملنا وأصفانا وأغنانا وأكثرنا جدارة بالحب . في الواقع في زمن مضي من عمري الساري كسريان كل الأشياء ،وهو تقريباً في بدايات الثلاثينات كنت كبقية أفراد بنات الطبقة الوسطي الحاصلات علي المؤهلات العليا ، لا أهتم كثيراً بالسياسة ، إلا بالمصادفة لمعرفة الأكثر أهمية من أحدي الزميلات أو الزملاء المعتادين علي قراءة الجرائد اليومية، وإن كانت تلك العادة وهي شراء الجرائد اليومية ، قد بدأت تختفي وتتلاشي في السنوات الأخيرة ، لا أعرف السبب الحقيقي لذلك الحدث ، ربما ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة الذي أوشك أن يقطع أنفاس أبناء مصر المعروف والمشاع عنهم أصحاب النفس الطويل . ربما عدم ثقه في أي شئ تقوله الحكومة . عن تحسين الأوضاع ، ربما بغضا ومقتاً لما يحدث في إسرائيل ولبنان والعراق وأفغانستان وباكستان وكل الدول المجاورة ، لدينا كل ما يدعو إلي عدم قراءة الجرائد ، لكنني عندما قابلت صديقتي السرية المفضلة ( وهذا المفهوم والمصطلح التركيبي الكامل له خصوصية شديدة لدي وهي حكايات مثيرة ستكون ما بيننا من ثرثرة . وقد تمت تلك المقابلة بعد عودتي مباشرة من إحدي الدول العربية حيث قطنت بها حوالي عامين ونصف العام ،وكان حينذاك قد اكتمل عقدي الثالث ، بل واكتملت معه معظم آرائي في تلك الحياة القصيرة . تقابلنا صدفة عند عودتي من الرحلة للعمل مرة أخري في إحدي المدارس الحكومية البشعة التوصيف ، وكانت تعمل أعمالا حسابية خاصة بإدارة شئون الموظفين (العاملين ) فهي خريجة كلية التجارة، دفعة قديمة ، فقد أوشكت علي إتمامها منتصف الأربعينات ، ولم تتزوج ولا تريد أن تتزوج . هذه الصديقة السرية المفضلة ، مفضلة لكونها مغرمة بالجلوس والتحاور معي لفترات طويلة ، نأكل ونشرب ونتحاور ونتعارك. أنا أيضا ليس لي زوج مثلها تماماً . أو أحد يشاركني الأوقات الضائعة، صديقتي كثيرة الجدل أحياناً إلي حد الصراخ عندما تأخذها الحماسة الوطنية الواهنة ، هذا الجزء أصبح منسيا تماماً في وجدان أي منا ، لكن صديقتي تري أن الصراخ أفضل من اليأس التام قائلة ما قرأته وأفزعها :- تحمل علي عاتقها إعلان النبوءة السيئة ( لا دولة في فلسطين أو بمعني آخر أخف وطأة الدولة الفلسطينية ليست مؤكدة، وليس هناك ما يبشر بها حتي اليوم) . وحينما تشعر أن سكينا حادا سيذبحها بقدر ذبح دجاجة تفرفر من جراء سكين الذبح ،وتعود قائلة يملؤها شعور بالألم . - التاريخ البشري ليس هو تاريخ تطور الثقافات ، ولكن هو تاريخ تطور الأسلحة وعندما تجدني بهت وغرقت في الصمت والاستغراب ، ما علاقة هذا بذاك الحديث ، هل اليأس حولك إلي شخص غير منطقي ،ومرتب في قول الأقاويل التي تدعينها ، حينئذ تشعر بما أريد الإيحاء إليه؟ فتهب فجأة واقفة ضاحكة وقد تغير الموضوع تماماً بقولها :- - أحضرت لك اليوم هدية ثمينة أبتسم نصف ابتسامة ولا أرد : - لن تتوقعي ما هي ...إذاً أغمضي عينيكِ. أغمضها نصف إغماضة بمكر حتي أري جزءاً من الهدية، وأستخدم حدسي في تخمين ما تلك الهدية ؟ إنها هي فيلم ( المقاتلون حتي الموت ) المجالد . راسل كرو . هذا الفيلم العبقري، والمفضل لدينا أنا وصديقتي كونه أكثر من فيلم ممتع ومثير ، إنه أوحي لنا بصنع وجهات نظر في الحياة ، واستخلصنا منه إلي قاعدة سرية بها شفرة لا يعلم فكها غيري أنا، وصديقتي المفضلة ، وهو كلمة not yet ليس بعد . كل الأشياء والحاجات والآمال مالها من وصول ، كل البيانات والمبادئ والحكايات ،وأهم القيم تسعي للخروج من كلمة not yet حتي تتم ، ومهما مرت الأمور وحاولت استصلاح ما بين ما يبدو عديم الفائدة . هناك حائط واحد نقف أمامه ،وهو الموت . لكن في ذلك الفيلم حتي الموت أكثر المعاني خلوداً ينتظر تلك الكلمة not yet حتي يتحقق ثانية في الحياة الأخري ، هكذا يقولون لنا في التاريخ والأسلاف وعظماء الماضي والأديان الثلاثة يدعون أن هناك عالما آخر ينتظرنا مع أحبائنا وأعدائنا ، ولكن ليس بعد . تري صديقتي الفيلسوفة التي تدعي المعرفة بمعان عن أسرار الحياة البعيدة حقيقة أننا نحن البشر ملح الأرض ، وغبارها وظلالها وبقاؤها الأبدي في زمن بعيد غريب عنا نسمع عنه ونشاهده ونراه فقط في الأفلام بخيال ومذاق وتكوينات مختلفة تماماً عن سلوكنا وهيئتنا الآن ، هذا الماضي السحيق يصنع دهشتنا الآن هل كان حقاً هؤلاء المقاتلون (عبيد روما) الذين كان ينحصر واجبهم في الحياه أن يقاتلوا حتي الموت في ساحات خاصة لمتعة العامة واستثارة المتفرجين ؟من سيفوز بالحرية وينهي الآخر الصراع دون أن يموت ؟. عقلي الآن الممنهج ، المنظم ، يدعو إلي الإنسانية في التعامل البشري ،ولا يتخيل بوجود هؤلاء ( عبيد روما ) . لكن مع مرور كل تلك الأوقات من مسار تقدم البشرية ، وتهذيب الإنسان ، ودفعه لاحترام أخيه الإنسان ، أري أنه خيال أقوي وأقرب إلي النفس من بشر العصر الحديث الآن ، فروما القديمة التي كانت تحبس عبيدها في أقفاص حديدية وخشبية مع الحيوانات ،هي مصر الحديثة الآن لا اختلاف كثيرا. نحن المقاتلين حتي الموت ، من أجل أن نحيا فقط ، من أجل كفاح مرير لسد رمق الحياة التي أصبحت في خصام عنيد لننال حتي متطلباتنا اليومية الضرورية ، ليس هناك فرق كبير بيننا، وبين عبيد روما في روما القديمة بل في الإمبراطورية الرومانية العظيمة الشأن في حينها ، هم يموتون في ساحة الصراع ، ونحن نموت في ساحة الاختناق اليومي داخل منازلنا المتهالكة ، خارج شوارع ضاقت وضجت منا ومن السيارات ، المجدي أصبحنا بشرا كثيرين ومن كثرتهم وتكاثرهم غير المجدٍ اختلق شعار " حزب جديد معارض للحياة". قرأت عنه في إحدي الجرائد وهو حزب جديد ظهر في مصر، لا معارض سياسات ، ولا يطلب علاوات، بل يفارق الحياة ذاتها ، شعاره الوحيد الراحة الأبدية ، وحزب المنتحرين الذين تتزايد أعدادهم بين الشباب العاطلين عن العمل (تم رصد استجواب تقدم به أحد النواب الأسبوع الماضي لمجلس الشعب أن مصر شهدت انتحار 12 ألف شاب خلال الأعوام الأربعة السابقة بسبب البطالة التي تعاني منها ما بين مليونين إلي ستة ملايين معظمهم شباب ، يظل بدون عمل أو أمل حتي سن الأربعين ، فلا يبقي أمام العديد منهم سوي حزب معارضة الحياة الذي جدد الموت به شبابه، وقد نشرت الصحف في مطلع ديسمبر العام الماضي 2008، أن ربة منزل في قرية شريف باشا بمحافظة بني سويف ، عثرت علي جثة زوجها ملقاة داخل حجرته ، وقالت الزوجة (صابرين محمد) إن زوجها جابر سعيد ، البالغ من العمر 45 سنة ، كان يعمل مدرساً ، لكن الديون كانت تطارده من كل مكان ، وبحث عن فرصة عمل إضافي فلم يجد ، ولم يكن راتبه (مائئان وخمسون جنيها) يكفي مصاريف بيته لأسبوع واحد ، واقترض من أقاربه ، ومن البنوك ، وعجز عن سداد ديونه ، ورصدت جهات مختصة أن أعلي نسبه في حالات الانتحار، تتم في شهر رمضان ، والفترة التي تسبق دخول الأولاد المدارس ، نظراً لاحتياجات العائلات في تلك الأوقات ، والضغوط المالية التي تعاني منها " وبعد كل هذا يا صديقتي المفضلة : ألاترين اننا مقاتلون حتي الموت؟ ، ليس لنفوز بالحرية ، بل لنفوز بالعيش ، وأن نحيا ، كلمة الحياة ، إنها من روائع الكلمات رغم مرورها عابرة وسط أحاديثنا العابرة المعتادة ، الجوفاء ، لكنها في غالب الظن ، معني غائر الوجود ،الحياة تبدو لي كنور وهج ، مشع يتلألأ مثل الشمس ، ينبض مثل القلب البصير يدرك رؤية ما هو علي وشك السقوط ، وحالات متعددة ومشتتة من المكابدة المستمرة إلي ما لا نهاية. وأنت أيها الإنسان رسولنا علي تلك الأرض ، عند شروق الشمس الكبير لابد لك أن تكون موجوداً تدب بقدميك علي الأرض بخطوات هادئة ثابتة ، راسخة ، قوية ، متجددة الحضور ، تنظر إلي السماء وتتنفس الصعداء، ترفع صوتك لتتفوه بما يحلو لك ، وتدعو أن تصل توسلاتك إلي بيت الرب ، وتلهو كما تريد في ساعات راحتك . هل هذا يتحقق ؟ لك ولي .. وللآخر هل أنت موجود وسط هذا السمو الحياتي ؟. هم يعرفون ما هي مصر ؟ هي الجماهير ، هي الغوغاء المترعة ، القاطنة في كل الأزقة والحواري ، أمام المساجد ، والمصليات ، الصورة المصغرة المنتشرة والمنتصبة في بادئ أحيائناً و آخره كالعلامة والشاهد علي رسوخ الإيمان في كل الثغرات ، وهم في حقيقة الأمر لا يضمرون الكثير لهذا الاعتقاد الذي يدفعهم إلي نفاد الصبر ( أو الصبر غير المحتمل ) . مصر هي الصبية الذين يلعبون الكرة في أي مساحة خالية حتي لو كانت خرابة ، حلم النجومية والمال ، والفهلوة . مصر هي الفتيات العابثات الفائرات داخل البنطلونات الجينز الضيقة والبديات اللصيقة بالجسم، والجديد من الكارينا والفيست والنصف حجاب والنصف مكياج، يتوجهم النقاب والخمار السعودي وما يخفيه. مصر هي كثير من الجرائد والمجلات معيار الديمقراطية التي أصبحنا نلوكها مثل العلكة تحت وطأة انتشار البرامج التليفزيونية الحرة والجريئة بلغة الإفصاح والاقتحام والتهليل والصخب غير المبرر وابتسامات أخيرة للمذيع أو المذيعة أمام الكاميرا حتي تبدو الأمور ليست سيئة إلي حد كبير، وراءها سرب من التمثيليات البليدة، وأغاني العري والابتذال الآتي لنا بكل أشكاله من جيراننا بل ومن داخلنا نحن. تلك هي مصر التي تنتظر الطاعون في أي لحظة خائنة عن الزمن والحرص، تنتظر الموت وتستقبله بكل حفاوة كما يستقبله متفرجو جماهير روما أمام العرض القتالي لعبيد روما. جماهير مصر مستغرقون في متابعة المانشتات الصباحية، والفضائية والهتافات هنا وهناك لا مثيل لسخونتها الممهورة من قلوب موجوعة، فهي في حالة شراهة من الحرمان، إنها كلها ألعاب لا تحصد غير صراع مقيت قاتل، زاهق للنفوس في نهاية الأمر أليست جماهير مصر مثل جماهير روما الغوغاء الذين أغواهم ملكهم الأحمق كوميدس بالألعاب ، والشعوذة التي تسليهم وتسلبهم حريتهم تحت تراب الكوليزيوم؟، يهتفون برؤية الدم والمبارزة الفاتكة وسط صراخ حاد للوصول إلي ذروة الحدث وتلاقي المصارعين في حلبة القتال تلاق دموي ، حاد وعنيف باستفزاز وإثارة جلبتها هتاف الجماهير المذعورة التي تعوي صراخا وبأسا وغضبا داخل جوارحهم وقلوبهم المكلومة بإحباط لا تغيير ، لا أمل حتي يزأروا :- - اقتل _ اقتل _ اقتل . أليس الأمر متساوياً بين غوغاء روما التي تعشق تراب الكوليزيوم وغوغاء مصر التي تعشق أحجار الفراعنة؟. إن تراب مدرج روما القديم هو القلب المقهور لروما ، وذلك القلب المقهور هو جماهير روما قلوبها تمتلئ برغبة الخوف، والتساؤل ، تركيبة قوية لصنع القهر ، العجز ، الإحباط ، وبعدها حين يموت ما يكفي من الرجال في حلبة المصارعة ، من الممكن أن تحظي بحريتك وبدل أن تصبح جنديا في المعركة شعاره القوة والشرف ، تصبح مجالدا (مصارعاً) شعاره اقتل، اقتل فهذا مفتاحك للحرية ، وسيكون قول العبد ، أمام العبد الآخر في ساحة الصراع (المصارعة) : - - نحن الذين نوشك علي الموت نحييك . ولكن يبقي السؤال الغائر في مضمونه ومغزاه ، هل لي موطن جيد، يستحق القتال من اجله ، سواء كنت جندياً أو عبداً أو مصارعاً؟، هل تهتف زاعقا بعزم؟:- النصر لروما أم النصر للهزيمة مرة أخري فأنا أشعر بنفسي تبكي مراراً للتراجع والتواطؤ والنيل من كرامتي لأحظي بحقي. إنها هزيمة كبيرة أمام نفسي الضالة والضعيفة .... أليست روما هي مصر؟ فتراب مقابر الفراعنة هو أيضا القلب المقهور لمصر وأبنائها . امتلأ بالحيرة والغباء في سؤالي هذا كيف صنعتم تلك الحضارة يا أجدادي ؟وهل نحن حقا أحفادكم ، من نسلكم الحارق ( العبقري )؟ أم إنه القدر العبثي الذي جاء بهم ، ليغزوا تلك الأرض السوداء الخصبة، ونمت وتشبعت بمائها ، واخترقت الشقوق والثنايا فأنتجت ذلك النتاج الهائل من البشر الذين فعلوا فعلتهم الآثمة مع كل شئ وكل كائن فكان ما كان. وبعد هدوء العاصفة، نظروا للخلق فوجدوا مصر الفراعنة ننظر إليهم ، باستحياء وغرور، عجبا من أنتم؟ فصاحوا مجيبين، نحن أبناء مصر، نحن أبناؤك أيها الفراعنة، ألسنا هنا؟ ، ألسنا من نعبث بكل محتوياتك المطمورة في كل قري مصر ومحافظاتها نحن شاهدو عصرك وأحفادك، نحن عاشقون مغرمون بتلك الكنوز الحجرية، التي لا تجلب غير الفخر، والاحترام، وجني الثروة أمام كل الآخرين في كل أنحاء العالم. نحن قلبك المقهور، وأنت عزاؤنا عزاء تخلفنا وتراجعنا، وكلما مر السؤال اللعين (في عقلي) كيف يمكن لي جعل الأمور مختلفة؟ لقد رحل عني ذلك الرجل، هل تذكر إحساسك وأنت تحظي بالثقة؟ بإنك ابن تلك الحضارة ، الثقة في تلك الأحجار، والأحجار هي التاريخ ، هي الميثاق المؤكد علي صنع الاحترام . مدافن الأسلاف ، وحاجاتهم ، وكل المظاهر القديمة ، والتصورات عن صنع أفكار كالخلود ، والعظمة ، والمجد ، والحضارة ، لكنه يأتي السؤال الحقيقي ومن أنا الآن لأثق ويثق بي أحد؟وأنا أشعر دائماً بالخطر كلما أردت أن أصبح رجلاً جيدا في وطن ؟ هم في نهاية الأمر يعرفون الكثير عن كيفية إغواء وإغراء الجماهير للتأثير عليهم لتجردهم من حريتهم ، إن شعوذة الجرائد ، والفضائيات والدين ومغامرات الكمبيوتر ، والفقر والبطالة والمخدرات وأهمهم الكفاح من أجل العيش سوف تشغلهم عن ذلك .إنها ألعاب وفي بعض الأحيان ، نحاول أن نبعد عن كل هذا ، فنسمع حفيفاً غريبا من الصمت ، لعله صخب الشعوذة . فنحن الجماهير ، نحن الغوغاء نحن البشر المساكين لسنا سوي خيالات ، وعرائس مارينوت وغبار يتلاشي علي الدوام خلال مرور الأيام ، كل الأيام . مدينتي الصغيرة ، تلك البلدة البعيدة التي أقطن بها أنا وصديقتي السرية المفضلة مدينتي أشبه ببلدة قروية ، ريف تمدن فأصبح مسخا . ورغم تفشي ظاهرة الحجاب ، تقريبا لا توجد مسلمة لا ترتدي الحجاب العادي الشكلاني الذي يحمل جميع مظاهر الموضة الجديدة من الأزياء الحديثة وأخريات يرتدين النقاب والإسدال والخمار كل بمعاييره غير ذلك هن مسيحيات وهن ينتشرن بكثرة في صعيد مصر وخاصة محافظة سوهاج وأسيوط . فنحن بدء الصعيد . صعيد مختلط من الفلاحين، والعرب والصعايدة . وإحدي العلامات المميزة لشباب وشابات (فتيات) مدينتي حمل أرق وأحدث الأنواع من المحمول . واقتناء الكنز تشاركه (تلازمه) شرائح الشيبسي. واستكمالا لتلك الملاحظات الشبابية حمل لاب توب . وارتياد التاكسي الذي ظهر حديثا من خمس سنوات رغم صغر شوارع مدينتي ومحدوديتها . معظم أحياء تلك البلدة القريبة من القاهرة والبعيدة عنها ، ويأتي بعدها الحقيقي في مضمون تلك المدينة الشاردة القائمة في خيالي، التي هي أشبه ببقعة من الزيت الراكد . مستنقع لا يتحرك لا يطمح لا يفعل الكثير حتي في أحلك وأصعب المواقف غير الابتسامات البلهاء واللامبالية هي بعيدة عن كل الخيال والأفكار. والطموحات تهم في مخيلتي كفكرة ماتت من زمن بعيد . تتناثر أحياؤها السكنية الحديثة الطراز بأشكال مختلفة من تقنيات العصر الحديث بمنزل حسن البناء بحلية الرخام والقاشاني والبسط الصوفية الدقيقة فوق الجدران وعلي الأرض سجادات ملونة للحرم المكي ، والمدينةالمنورة وغيرها من الرسومات الإسلامية ، مع وجود مصلي في الدور الأرضي تيمنا واستحسانا وشكراً من رزقنا هذا ، وهذا منتشر جداً في أحياء كثيرة من مدينتي وأغلبهم من الذين سافروا إلي بلاد النفط أي من كانوا لا شئ إطلاقاً وأصبحوا شيئا ضخم الجثة والروح والعقل رب البيت يحمل السبحة ويلبس الجلابية البيضاء ابتهالا لربه من أكرمه وأعطاه . والآخرون أثرياء من امتلاك الأراضي، كالفلاحين، والمحلات التجارية والمقاولات والبناء اختصاص الصعايدة ، والعرب يتشاركون في كلا الحالتين مع اختلاف أنهم يطلق عليهم أبناء الجيل فهم ماهرون إلي حد البراعة في التعامل مع الجيل وزواحفه كالثعابين والعقارب والأبراص والفئران بل واصطيادهم وبيعهم لدارسي كليات الطب والصحة، وممارسة هوايتهم العظيمة، وهي صيد الصقور ،فيباع بحوالي 30 ألف جنية خاصة للعرب . وهذا يكلف الصياد الحاذق المكوث في الجبال والجلوس والانتظار والمثابرة وصنع الخيات من الحمام ، وهي حبكة وصنع له العجب ، وصفة يقل عن رؤيته وامتثاله أمام الناظر لخية الحمام . يحضرون عددا كافيا من الحمام وعلي ظهور الحمام يقومون بعزل كثير من الخيوط المربوطة ببعضها من خلال خشب رفيع وصغير لحجم جناحي الحمامة وتلك الخيوط بها خيط طويل بعيد عن الجبل بعدة أمتار مربوط بحجر ليس ثقيلا وبالطبع الحمام ساكن فوق الجبل وحينما يأتي الصقر يتشابك أرجله ذات الحوافر بتلك الخيوط معتقدا الصقر، أنه يبحث عن صيده لا يعلم أنه هو الصيد لصانع الخية ذلك الإنسان الذي يتحدي دائما ذكاء الطبيعة وأسيادها كذلك الصقر ، وعندما يحاول التهام إحدي الحمائم ينهار تماما محاولا التملص والهروب من الخية وهو يرفرف بجناحيه دونما أمل وحينئذ يجذب ويشد الصياد، صياد الصقور صيده الثمين ، الذي يفخر دائماً بأنه ليس بصائد عادي ، كصياد السمك بل هو صائد تلك الطيور كالصقر الذي يهوي الجبل، فالجبل هو حريته وملاذه الأبدي. وآخرون رفعهم الحظ الوافر فأصبحوا موسرين بذهول . كما حدث مع عمتي عفاف . تلك السيدة الفلاحة التي لا تملك من الدنيا غير زوج فلاح أيضا وأبنائها الخمسة منهم ثلاثة رجال تعليمهم متوسط. وبنتان لم يتعلما غير أن ينتظرا الزوج . ليزيح إعالتهم عن كاهل عمتي وزوجها المريض . وفجأة دخلت تلك الأرض كردون المباني وأصبحوا يقطنون كورنيش النيل في أرقي أحياء وأغلي أحياء مدينتي في عمارة شاهقة . ويتباهون بماركات سيارتهم التي لا يرتادها أحد غيرهم في المدينة. وبعد رفع يد التأميم عن معظم الممتلكات القديمة بطرازها القديم الغالب عليه الطابع الإنجليزي . أصبحت تلك البيوت تباع بالملايين . مدينتي مستنقع من العائلات كل بنفوذه وقدرته علي السطوة والاستمرار . أعضاء مجالس محلية ، أعضاء مجلس شعب ، ضباط شرطة ، عمل مشاريع واسعة المدي في أرض الشرق والجبل مع مستثمرين أجانب . ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية ، سقطت بعض العائلات ليس كاسم ولكن كمحتوي قوي ، قادر علي منافسة الآخرين من العائلات وإن كانت في كنهها تحتفظ بالمجد القديم لاسم تلك العائلة .