هذا الذى كانت الآمال تنتظر فليوف لله أقوام بما نذر هذا الفتوح الذى جاء الزمان به إليك من هفوات الدهر يعتذر من قصيدة «الرشيد أبو محمد النابلسى» لصلاح الدين الأيوبى عند فتحه للقدس عام 1187 فى ليلة المعراج. كنا قد انتهينا إلى سقوط القدس عام 1099 فى يد الصليبيين وقتلهم لأكثر من 60٫000 مسلم من السكان داخل المسجد الأقصى وسط صراعات حكام العرب وتواطؤهم فى أحيان كثيرة. بقى الأمر على ما هو عليه سنوات عدة استطاع الصليبيون خلالها توطيد حكمهم حتى أصبحت هناك مملكة القدس يتوارثها ملوك الفرنجة وتحيط بها ممالك صليبية أخرى تمتد إلى أغلب أراضى الشام. الفضل فى استرجاع القدس يرجع إلى رجلين وإلى مقاومة الشعوب العربية من خلال سلسلة من المعارك امتدت 40 عاما. من الإجحاف سرد سيرة الناصر صلاح الدين دون أن تسبقها سيرة «نور الدين بن زنكى» ولا يمكن الحديث عن استرداد القدس دون ذكر توحيد الشام ومصر أولا على يد نور الدين ثم صلاح الدين. عندما استلم «بن زنكى» حكم حلب عام 1146 لم يكن عمره يزيد على الثلاثين عاما، ولكنه وضع لنفسه هدفا، وهو توحيد الشام وتحرير القدس، وتزوج من ابنة الأتابك «معين الدين أنر» حاكم دمشق. لم يمنع تحالف معين الدين مع حكام القدس الصليبيين الحملة الصليبية الجديدة أن تستهدف دمشق أولا وتحاصرها فما كان من أهل المدينة ألا أن قاوموا مقاومة شديدة حتى اتجهت إليهم إمدادات تركية وكردية وعربية فأستطاع حاكمها أن يبث البلبلة فى جيوش الفرنجة بعد أن أبلغهم بقرب وصول هذه الإمدادات وأنهم سيتم محاصرتهم فتقهقروا إلى القدس وطاردتهم قوات معين الدين. توفى حاكم دمشق بعد عام من هذه الأحداث مما أحدث فراغا فى السلطة، فقرر زوج ابنته «نور الدين» أن يتجه إلى أسوار دمشق ولكن بدلا من أن يبدأ نور الدين الهجوم بدأ فى اكتساب مودة الشعب وبعث إليهم من يطمئنهم أنه حال دخوله للمدينة سيرفع عنهم جبايات ويرد لهم حقوقهم. فى هذه الأثناء أرسل الحاكم الجديد «مجير الدين» للمدينة يستنجد بالصليبيين ولكن «بن زنكى» استطاع قبل وصولهم أن يدخل المدينة من بابها الشرقى بمعاونة بعض من أهلها، ودون أن يسفك دماء حتى إنه ترك حاكمها يرحل، ثم جمع أهل دمشق من علماء وتجار وقضاة وأعلن إلغاء بعض الضرائب ففرحوا لذلك، وتوحدت دمشق مع حلب مرة أخرى. وحّد «نور الدين بن زنكى» أغلب الشام وجعل دمشق عاصمة ملكه، ولكن الصليبيين قاموا بالاستيلاء على «عسقلان» فى فلسطين من الفاطميين فكان ذلك إيذانا بعزمهم غزو مصر، وبالفعل تقدم ملك القدس «عمورى الأول» إلى مصر، وحاصر مدينة «بلبيس» بالشرقية فقام السكان بتدمير بعض السدود فوجد جيش عمورى نفسه محاصرا من الماء وتراجع. فى هذه الأثناء ذهب كبير وزراء الخليفة الفاطمى، وكان يدعى «شاور» إلى بن زنكى يستنجد به بعد أن تم عزله من أحد قواده فقام بإرسال «شيرقوه» وابن أخيه «صلاح الدين» ليسترد «شاور» مكانه وليؤمن «نور الدين» الجنوب من الصليبيين بعد أن وعده «شاور» أن يدفع له كل عام ثلث إيراد الدولة، وقد كان ولكن «شاور» لم يفِ بوعده بل طلب العون من «أمورى» ملك القدس للتخلص من جيش «نور الدين» بقيادة «شيرقوه»، فقام ملك القدس بمحاصرة جيش المسلمين فى سيناء ولم ينقذهم إلا وصول إمدادات من الشام، وتم الاتفاق بين الجيشين أن يرحل كلاهما عن مصر. ولكن سرعان ما تحالف الوزير الفاطمى مرة أخرى مع الصليبيين! فبدأوا فى التوافد مرة أخرى على مصر إلى أن قام جيش الفرنجة بمحاصرة «بلبيس» مرة أخرى ثم الاستيلاء على المدينة، وقاموا بقتل كل من فيها ولم يستثنوا أطفالا أو شيوخا أو نساء، فاستنجد الخليفة الفاطمى «العاضد» (وعمره 16 عاما) بنور الدين ولكن قبل وصول صلاح الدين برفقة عمه مرة أخرى انسحب الصليبيون وقتل «صلاح الدين» الوزير «شاور» بيده لخيانته ونكثه العهد وجلس «شيرقوه» مكانه فى الوزارة، ولكنه توفى بعد عام فخلفه «صلاح الدين»، وبدأ بالتدريج فى الانفصال عن الدولة فى الشام وأخذ فى تنظيم أمور الحكم فى مصر حتى توفى الخليفة الفاطمى الشاب فخلفه على مصر، فاستتب الأمر لصلاح الدين، وبدأت الدولة الأيوبية. تتابعت انتصارات صلاح الدين الأيوبى حتى ضم الشام تحت رايته ثم انتصر انتصارا صاحقا على الصليبيين فى حطين فى يوليو عام 1187، وبعدها استرد القدس فى نفس العام بمساعدة المسيحيين الأورثوذكس من سكان المدينة ودون أن يسكب دماء كثيرة.