هل اعتزل البرادعى؟ انسحب؟ هل كان يريد لعب دور غاندى فى أرض لا تشبه الهند؟ هل خسر الوعود السرية بتولى رئاسة مصر؟ هل اكتشف أن طريقه إلى قصر الرئاسة مسدود؟ أم أن هذه مناورة جديدة للقفز إلى موقع بعيد عن المنافسة فى معركة الثورة والنظام؟ الاستقطاب بين مؤيدى البرادعى وكارهيه استنفذ أغلب الطاقة فى تأمل مشهد انسحابه، البعض رأى الانسحاب اعترافا مسبقا بالهزيمة أو انتحارا سياسيا.. والبعض رأى أنه ترفع عن الدخول فى لعبة أو مسرحية أو غيرها من مسميات تنظر إلى ما يحدث فى مصر على أنه صناعة أقدار سياسية بيد قبضة عليا.. حركتها حرة ومنفردة على مسرح سياسى لم يتغير رغم الثورة. البرادعى لم يكن مرشحا محتملا عاديا، ولا كان سياسيا من داخل دائرة فقدت فاعليتها بفعل مخطط مبارك فى دفع مصر إلى مصيدة الرمال المتحركة. وهذا، فقرار الخروج من سباق الرئاسة يحتاج نظرة إلى طريق التغيير الذى لم يرتبط طبعا بشخص واحد.. لكن البرادعى كان حلقة هامة من حلقات السير إلى الثورة. عندما ظهر البرادعى كان الرد الجاهز عليه: «لا ينفع معنا سوى ديكتاتور.. نتمنى فقط أن يكون عادلا».. «نريد رجلا عسكريا يعرفنا ويعرف البلد.. مثل عبد الناصر والسادات ومبارك وعبد الحكيم عامر..». هذه صياغات مهذبة لآراء عرضتها الفضائيات لمصريين من النوع الذى يسميه المحللون والسياسيون «رجل الشارع» بعد أيام قليلة من وصول البرادعى فى فبراير 2009 إلى القاهرة فى أول خطوة من «معركة» رئاسة مصر. وكتبت يومها أن البرداعى يخوض المعركة على طريقته. والجماهير الرمزية التى استقبلته من بينها نوعية أخرى من «رجل الشارع»، لكنها على العكس تريد «الدكتور» بديلا للرئيس مبارك. بين الذين لا يرون بديلا للرئيس مبارك والذين يبحثون عن بديل «أى بديل» للرئيس، يتجلى الفارق الذى يمثله دخول البرادعى ملعب الصراع السياسى فى بلد مثل مصر، وفى لحظة «كانت وقتها» انتقالية تصيب الجميع بالانفعال. رجل الشارع كان يبحث عن الأقدار، تربى على الإدمان. الحكام بالنسبة إليه هم أصحاب البلد وملاكه. هو ضيف أو موظف فى جيوشهم. الحاكم وقتها كان إلها إلا قليلا، ولا حول ولا قوة للمجتمع إلا بما يمنحه هو من أدوار ووظائف وهبات وعطايا. البرادعى من خارج دائرة الأقدار، هابط من سماء أخرى، وهذا ما يجعله مربكا للجميع: من يبحث عن بديل ومن يرفض البديل. إنه بمعنى ما، ليس البديل للجنرال ولا يمكنه الدخول فى حرب الآلهة على المقعد الفخم فى مصر، إنه سهم قادم لكسر الدائرة المغلقة على نفسها. سهم حكيم هادئ لا يدعى امتلاك الحل السحرى أو مفاتيح الجنات المغلقة. كانت الملحوظة الأولى أن الدكتور البرادعى يتلعثم مع بعض الأسئلة، لأنه يفكر، وهذه خاصية نادرة فى الزعماء الموهوبين فى الخطابة، والمطلين من أبراج الحقيقة الكاملة. رجل استقبله الآلاف، وضمت حملته التطوعية على موقع «الفيسبوك» 95 ألف مشترك «10 آلاف منهم انضم فى اليومين الماضيين».. ويفكر أنها فضيلة التلعثم فى زمن الخطابات الجاهزة والمستهلكة. خطاب المعارضة فى العادة خلطة «ثلث نقد للدولة وثلث مزايدة على القضايا الوطنية الكبرى والثلث الآخير توازن مع الدولة لكى لا تفتح ملفاته». البرادعى كانت طبخته جديدة، وتلعثمه الذى انتقده مدمنو الحلول الجاهزة إشارة إلى حيوية القوى الجديدة فى المجتمع.. قوى هاربة من الاستقطاب بين النظام والإخوان المسلمين، وتفك عزلة مصر عن تيارات التغيير فى العالم وتجعلها أعجوبة أو قائدة فى دول الأعاجيب العربية. الفاشية بليغة وتصنع نماذجها المخدرة ببراعة فى العصر الفضائى، وتنتقل من شرفات الحكم إلى الشوارع مثل المخدرات السهلة.. وهذا ما يصنع شعبية ما لقرار رئيس مجلس الدولة بمنع المرأة من التعيين فى القضاء، أو لقيمة منقرضة أخرى مثل ضرب الزوجات، التى أيدتها 75٪ من عينة استطلاع رأى بلغت 50 ألفا بين رجال وإناث. الفاشية فى السلطة تجعل المجتمع يبحث عن الذكورة فى المجتمع، ذكورة وهمية تعيد قيما منقرضة وتمنع النساء عن حق دستورى. ثقافة التغيير ترتبط بتلعثم ما للخروج عن النص السائد.. تلعثم لا يعبر عن فقدان القدرة على تدبيج الخطاب.. ولكن عن محاولة مخلصة تعرف المسافة مثلا بين المتاجرة بالنضال ضد إسرائيل وبين مواجهتها فعلا فى ساحات المعارك العسكرية أو الحقوقية.. وبين الاستسلام لقوانين الطوارئ ومقاومتها سلميا. هذه لغة جديدة تتكون فى ساحات غير نمطية لممارسة السياسة. أرسل البرادعى فى أول ظهوره رسائل إلى جمهوره عبر «الفيسبوك».. تلك القوى الجديدة المتحررة من سطوة خطابات عاجزة وتبحث شرارتها عن شرارة من القوى القديمة كما حدث فى 6 أبريل 2008 حين التقت شرارة نشطاء الإنترنت مع غضب عمال المحلة الكبرى وانفجر «ربيع مصر» بما لم يتحمله نظام مبارك بمؤسساته العتيقة. هذا ما كتبته فى لحظة الظهور الأولى للبرادعى.