«لا ينفع معنا سوي ديكتاتور.. نتمني فقط أن يكون عادلا»..«..نريد رجلا عسكرياً يعرفنا ويعرف البلد.. مثل عبد الناصر والسادات ومبارك وعبد الحكيم عامر..»..هذه صياغات مهذبة لآراء عرضتها الفضائيات الأسبوع الماضي لمصريين من النوع الذي يسميه المحللون والسياسيون «رجل الشارع».السؤال كان بمناسبة وصول الدكتور محمد البرادعي المدير السابق لهيئة الطاقة الذرية إلي القاهرة في أول خطوة من «معركة» رئاسة مصر.البرادعي يخوض المعركة علي طريقته. والجماهير الرمزية التي استقبلته من بينها نوعية أخري من «رجل الشارع» لكنها علي العكس تريد الدكتور بديلاً للرئيس مبارك. بين الذين لا يرون بديلا للرئيس مبارك والذين يبحثون عن بديل ( أي بديل ) للرئيس يتجلي الفارق الذي يمثله دخول البرادعي في ملعب الصراع السياسي في بلد مثل مصر وفي لحظة انتقالية تصيب الجميع بالانفعال. رجل الشارع يبحث عن الأقدار. تربي علي الإدمان.الحكام بالنسبة إليه هم أصحاب البلد وملاكه.هو ضيف أو موظف في جيوشهم. الحاكم إله إلا قليلا. ولا حول ولا قوة للمجتمع إلا بما يمنحه هو من أدوار ووظائف وهبات وعطايا. البرادعي من خارج دائرة الأقدار. هابط من سماء أخري. وهذا ما يجعله مربكا للجميع : من يبحث عن بديل ومن يرفض البديل؟ إنه بمعني ما ليس البديل للجنرال ولا يمكنه الدخول في حرب الآلهة علي المقعد الفخم في مصر. إنه سهم قادم لكسر الدائرة المغلقة علي نفسها. سهم حكيم هادئ لا يدعي امتلاك الحل السحري أو مفاتيح الجنات المغلقة. يتلعثم الدكتور البرادعي في بعض الأسئلة، لأنه يفكر، وهذه خاصية نادرة في الزعماء الموهوبين في الخطابة. والمطلين من أبراج الحقيقة الكاملة. رجل استقبلته الآلاف وتضم حملته التطوعية علي موقع «الفيس بوك» 95 ألف مشترك(10آلاف منهم انضم في اليومين الماضيين )..ويفكر.. أنها فضيلة التلعثم في زمن الخطابات الجاهزة والمستهلكة. خطاب المعارضة في العادة خلطة ( ثلث نقد للدولة وثلث مزايدة علي القضايا الوطنية الكبري والثلث الأخير توازن مع الدولة لكي لا تفتح ملفاته). البرادعي طبخته جديدة. وتلعثمه الذي انتقده مدمنو الحلول الجاهزة إشارة إلي حيوية القوي الجديدة في المجتمع.. قوي هاربة من الاستقطاب بين النظام والإخوان المسلمين.وتفك عزلة مصر عن تيارات التغيير في الألم وتجعلها أعجوبة أو قائدة في دول الأعاجيب العربية. الفاشية بليغة وتصنع نماذجها المخدرة ببراعة في العصر الفضائي، وتنتقل من شرفات الحكم إلي الشوارع مثل المخدرات السهلة.. وهذا ما يصنع شعبية ما لقرار رئيس مجلس الدولة بمنع المرأة من التعيين في القضاء. أو لقيمة منقرضة أخري مثل ضرب الزوجات التي أيدها 75% من عينة استطلاع رأي بلغت 50% بين رجال وإناث. الفاشية في السلطة تجعل المجتمع يبحث عن الذكورة في المجتمع.ذكورة وهمية تعيد قيماً منقرضة وتمنع النساء حقاً دستورياً. ثقافة التغيير ترتبط بتلعثمٍ ما للخروج عن النص السائد..تلعثم لا يعبر عن فقدان القدرة علي تدبيج الخطاب.. ولكن عن محاولة مخلصة تعرف المسافة مثلا بين المتاجرة بالنضال ضد إسرائيل وبين مواجهتها فعلا في ساحات المعارك العسكرية أو الحقوقية.. وبين الاستسلام لقوانين الطوارئ ومقاومتها سلميا. هذه لغة جديدة تتكون في ساحات غير نمطية لممارسة السياسة. أرسل البرادعي رسائل إلي جمهوره عبر الفيس بوك.. تلك القوي الجديدة المتحررة من سطوة خطابات عاجزة وتبحث شرارتها عن شرارة من القوي القديمة كما حدث في 6 نيسان 2008 حين التقت شرارة نشطاء الإنترنت غضب عمال المحلة الكبري وانفجر «ربيع مصر » بما لم يتحمله نظام مبارك بمؤسساته العتيقة. ماذا سيفعل البرادعي وجمهوره ولغته الجديدة مع المؤسسات الصلبة في الدولة؟ الأصح هو: ماذا ستفعل هذه المؤسسات إذا تقدم البرادعي خطوات أخري؟هل ستشعل البلد.. وتجد مبرراً لخروجها إلي الشارع.. وإعلان السيطرة وأنها الوحيدة القادرة علي منح صولجان السلطة وصك اعتماد الرئيس؟ أم ستقف علي الحياد وتستفيد من التيار الشعبي الهارب من إدمان حكم الآلهة وترضي بمساحة علنية معترف بها في العهد الجديد؟ .. هذه أسئلة اللحظة الخطرة.