مِن أين تأتى الفوضى والعشوائية فى الأنساق المعمارية التى تسود حياتنا، وتُضفى عليها تراكمات من القبح العام، وأشكال تشويه لفضاء المكان؟ ما مصادر توليد قوة القبح الذى يسيطر على عمليات البناء فى «المدن» والأرياف؟ هل هناك هُوية ما، شخصية ما للمدينة والقرية المصرية من خلال الأنماط المعمارية السائدة؟ لماذا فشلت محاولات صياغة نمط معمارى وطنى، يحمل فى مكوِّناته بعض سمات الثقافة والقيم المصرية، وبعض الجماليات «الوطنية»؟ هل توجد لدينا رؤية أو رؤى معمارية وجمالية تستجيب إلى احتياجات الإنسان، ولا أقول المواطن المصرى الذى لا يزال حالة مرغوبة أو مأمولة أكثر من كونها وضعية ناجزة ومتحققة فى الحاضر؟ هل هناك علاقة بين النمط المعمارى وتخطيط المنازل والكتل الإسكانية والطرق المدنية والقرية، وبين الديمقراطية وقيمها وثقافاتها؟ ما العلاقة بين الثقافة الأبوية والرعائية والتسلطية السياسية والدينية، وبين النمط المعمارى السائد؟ أسئلة تتوالد من أخرى، لكنها تشير إلى الأبعاد السوسيولوجية والثقافية والسياسية والدينية، وبين العمارة والمعمارى والأنماط السائدة التى تكشف مرايا التدهور فى العقل والخيال المعمارى الذى يسيطر على فضاء المكان الذى بات مرتعا لتصميمات معمارية رسمية وخاصة قبيحة وشوهاء. وراء الفوضى المعمارية عديد الأسباب، نذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر ما يلى: أولا: السياسة والعمارة: 1- ثمَّة علاقة وثيقة بين المعمار والسياسة، لأن الدولة والنظام السياسى التسلطى -منذ 23 يوليو 1952- لعبا دورا بارزا فى مجال الاستثمار وفى مجال الإسكان، ومن ثمَّ فى الطلب على العمارة والبناء والتشييد كجزء من السياسة الاجتماعية، ومن ثم تحولت الحكومة المستثمر الأبرز فى مجال الإنشاء والتشييد. من هنا كان التخطيط والتصميم المعمارى النمطى يعتمد على الأجهزة الحكومية المنوط بها القيام بوضع هذه التصميمات، والإنجاز لأكبر عدد من الوحدات السكنية. كانت هذه التصميمات ولا تزال سواء تم وضعها فى الوزارة أو تم الاستعانة ببعض المكاتب الحكومية المختصة، أو الاستعانة ببعض المكاتب الخاصة التى يديرها بعض أساتذة كليات الهندسة. ويلاحظ على بعض هذه التصميمات المعمارية استلهامها من بعض الأنماط المعمارية التى سادت الفكر المعمارى فى دول أوروبا الشرقية السابقة، وذلك تحت تأثير أيديولوجيا النظام، ومن استعارة بعض الأفكار والتصميمات المعمارية من هذه الدول. 2- إن إشباع الطلب الاجتماعى والسياسى الضاغط والمستمر على السكن كان له الأولوية على تلبية وإشباع الجوانب الثقافية والقيمية والجمالية المرتبطة بأنماط المعاش السائدة، والعلاقة بين المصرى/المصرية، وبين السكن ووظائفه الداخلية، ومن ثمّ أغفل مصممو الإسكان الشعبى الأبعاد الاجتماعية المرتبط بسوسيولوجية السكن والبيئة فى هذا الصدد. من هنا برزت فجوة بين نمط السكن وتصميمه، وبين السلوك الاجتماعى للمصرى والمصرية داخل نسق السكن، فى ظل تركيبة الأسرة، وعدم قابلية المسكن لتحمل الانفجار السكانى عموما، وداخل كل أسرة، ومن ثمّ تحول السكن الصغير المساحة إلى فضاء للتكاثر، ومن ثم غير قادر على تلبية الحاجة إلى الخصوصية «الفردية»، وتلبية احتياجات الأسرة للخصوصية. 3- إن السياسة الإسكانية الرسمية اعتمدت على الكمّ من أجل السعى إلى تقليل الفجوة بين الطلب على السكن والمعروض منه، ومن ثمّ استبعدت قيمة نوعية السكن من حيث وظائفه وجمالياته وتعبيره عن عادات الإنسان المصرى عموما، والاستثناءات قليلة فى هذا الصدد. 4- إن تخطيط وتصميم المسكن الشعبى لم يراعِ طبيعة السلوك الاجتماعى المصرى فى نمط الوالدية، ومن ثمّ تحول السكن إلى فضاء طارد خارج السكن، ومن ثم يفقد معناه فى العمق، وهو تحقيق قيمة السكن لأهله. 5- إن صغر حجم ومساحة الوحدة السكانية فى ظل كبر عدد الأسرة والعائلة المصرية يؤدى إلى قمع حرية أفراد الأسرة داخل الحيز المكانى، ومن ثم يبدو السكن كاعتقال، أو معتقل مكانى، لا يستطيع الشخص داخله أن يتمتع بحريته وخصوصيته. ومن ثم يشكل السكن إحدى أدوات قمع الفردية. 6- مع الانفتاح الاقتصادى، وعربدة الطبقة الجديدة من رجال الأعمال، ارتفع سعر الأراضى المخصصة للبناء ومواده، وتراجعت السياسة الإسكانية كجزء من التعديلات التى حدثت فى السياسة الاجتماعية -فى التعليم والصحة والتوظيف.. إلخ- وبرزت اختيارات جديدة للسلطة الحاكمة فى سياسة تمليك الوحدات السكنية للفئات الوسطى-العليا، والوسطى-الوسطى، والتراجع عن سياسة تأجير الوحدات السكنية، ومن ثم تراجع البناء الحكومى للفئات الشعبية. 7- أدت سياسة التمليك إلى مضاربات على العقارات، وإلى ارتفاع معدلات الاستثمار فى بناء المساكن المخصصة للبيع، وهو ما جعل الحصول على السكن بمنزلة حلم للفقراء. 8- أدت السياسة الإسكانية الرسمية إلى التركيز على بناء المنازل -فيلات- فى المدن الجديدة، وفى الاستثمار فى المنتجعات الفاخرة، وفى الشاليهات فى الساحل الشمالى، وعلى البحر الأحمر.. إلخ. من ثم تراجع دور الحكومة إلى حدّ ما فى مجال السياسة الإسكانية. يلاحظ هنا بعض الملاحظات نشير إلى بعضها فى ما يلى: أ- إن بيروقراطية الدولة وقطاع الأعمال العام لم يهتما بالجوانب الجمالية والثقافية والوظيفية للسكن وسلوك وعادات واحتياجات الإنسان المصرى فى تخطيط السكن. ب- غياب رؤية معمارية وإسكانية، ترتبط بتخطيط عمرانى للمدن، تضع الكتل المعمارية المنشأة، وبين التخطيط العمرانى الكلى للبلاد. وللحديث بقية.