تمر ليبيا مثل باقى دول الربيع العربى بمرحلة «ما بعد الثورة»، وهى المرحلة التى تشهد حالة من عدم الاستقرار والتغير العشوائى على الأصعدة السياسية، والأمنية، والاقتصادية، والاجتماعية. وتعتمد مرحلة «ما بعد الثورات» على عدة عوامل تتحكم فى مخرجاتها النهائية، مثل هيكل الدولة، ونمط الثورة، وحجم التدخل الدولى وطبيعته، والنخب السياسية الفاعلة فى المجتمعات والدول المختلفة. ونظرًا لاختلاف هذه العوامل فى ليبيا عن سائر دول الربيع العربى، نجد أن ليبيا فى مرحلة فريدة نوعًا ما، لم تشهدها الدول المجاورة لليبيا، التى شهدت ثورات وانتفاضات اجتماعية وسياسية كمصر وتونس. وفى سياق التعامل مع الأوضاع غير المستقرة فى ليبيا، التى بدأت فى تشكيل تهديدات إقليمية تتزامن مع سائر المشكلات السياسية والأمنية على الصعيد الإقليمى، عقدت دول جوار ليبيا اجتماعًا لوزراء الخارجية فى مدينة الحمامات فى تونس حضره وزراء خارجية «أو ممثلون عنهم» كل من تونس، والجزائر، ومصر، والسودان، وتشاد، والنيجر، وممثلون عن جامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقى. وكالعادة، جاءت الدعوة لهذا الاجتماع لمواجهة الخطر الإقليمى الناتج عن عدم استقرار الأوضاع فى ليبيا، ووقف عمليات العنف التى تهدد وحدة التراب الليبى وسلامة المواطنين. وكعادة الدول المجاورة لليبيا، لم تختلف النتيجة النهائية لهذا الاجتماع عن الاجتماعات المشابهة التى سبقته. وجاء البيان الختامى للاجتماع بكثير من الديباجة السياسية المعتادة، كتأكيد ضرورة احترام وحدة ليبيا وسيادتها وسلامتها الترابية، كما نص البيان الختامى للاجتماع على ضرورة مساهمة دول جوار ليبيا فى الاجتماعات والمؤتمرات التى تتناول الشأن الليبى، ودعم كل الجهود الهادفة إلى توفير أفضل الظروف لعقد مؤتمر الحوار الوطنى الليبى ومساندة المبادرات العربية والإفريقية المتعلقة بهذا الشأن. وبالرغم من البلاغة التى تميزت بها الحلول المطروحة فى البيان الختامى للاجتماع، فإنها لم تتعد كونها عبارات غير فعالة لا تُترجم إلى مواقف سياسية مؤثرة، أو لحلول فعلية للمشكلات التى عُقد من أجلها الاجتماع فى المقام الأول. وفى محاولة للتغيير، اتفق وزراء الخارجية المجتمعون على وضع خطة عملية للمساهمة فى حل الأزمة الليبية، ومن ثم تقرر تشكيل فريقى عمل برئاسة وزير الشؤون الخارجية التونسى، أحدهما أمنى على مستوى الخبراء الأمنيين تتولى الجزائر تنسيق أشغاله، والثانى سياسى على مستوى كبار الموظفين، وتتولى مصر تنسيق أشغاله. والهدف من تشكيل فريقى العمل هذه المرة هو تمكين دول الجوار من التدخل بشكل فعلى، من خلال آليات الحوار، فى الأزمة الليبية سعيًا لإيجاد حل لها. وبالرغم من استمرار الوضع الداخلى فى ليبيا على ما هو عليه، فمن ناحية هناك مشكلة أمن الحدود، التى تشكل ضلعًا أساسيًّا فى التهديدات الأمنية لدول الجوار، سواء تعلق الأمر بتهريب السلاح أو تسهيل دخول المخدرات أو المساعدة فى الهجرة غير الشرعية والاتجار فى البشر. ومن ناحية أخرى هناك تخوف من تحول ليبيا إلى بؤرة داعمة ومساندة للتهديدات الأمنية التى تواجه دول الجوار، كالتنظيمات الإرهابية الجديدة فى دول شمال إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء مثل تنظيم القاعدة فى بلاد المغرب الإسلامى، وجماعة أنصار بيت المقدس فى مصر، والتخوف العام من الربط الإقليمى بين هذه التنظيمات وتنظيم «داعش» فى كل من سوريا والعراق، وهذا بالطبع بالإضافة إلى المتمردين من الطوارق فى كل من مالى والنيجر. ولعل كل هذه التهديدات الأمنية هى المحرك الرئيسى لدول جوار ليبيا، التى بدأت ترى فى الوضع فى ليبيا تهديدا أمنيا لا يمكن إغفاله أو السكوت عليه، ولهذا نلحظ سعى هذه الدول للوجود بشكل فعلى فى الأزمة الليبية من خلال السعى للتحاور مع الأطراف الليبية المختلفة، خصوصا على الأصعدة الأمنية والسياسية، وهو ما يفسر تشكيل فريقى العمل برئاسة مصر والجزائر. ولكن الأزمة الحقيقية فى ليبيا هى أزمة غياب الدولة المؤسسية، وعدم تمكن نُخب ما بعد الثورة من التوصل إلى اتفاق حول الشكل النهائى للكيان السياسى الشرعى، وبالتالى يتغير المعنى المؤسسى لشرعية الدولة بشكل مستمر، وهو ما يترتب عليه الغياب المتواصل لمفهوم «هيبة الدولة»، ومن ثم تظل ليبيا فى مرحلة «السيادة المتعددة» «multiple sovereignty»، فتصبح الدولة غير قادرة على تطبيق القانون أو على اتخاذ وصناعة القرار السياسى بشكل كامل وغير منقوص. ويترتب على ذلك عدم تمكن الدولة فى ليبيا من تنفيذ ما توصلت إليه وما أبرمته من اتفاقات مع دول أخرى. ولذا فالتعامل مع الأزمة الليبية لا يمكن أن يتم من دون التواصل مع كل الأطراف الفاعلة، وهذا نظرًا إلى عدم وجود جهة واحدة تنفرد بصناعة القرار فى ليبيا. ولعل الحل الأكثر فاعلية هو فرق العمل التى تشكلت بقرار من مؤتمر وزراء خارجية الدول المجاورة الأخير الذى عُقد الأسبوع الماضى بتونس. وقد ألقت هذه الفرق بعبء ثقيل على كاهل كل من مصر والجزائر. فيجب أن تنظر الدولتان لما هو أبعد من مصالحهما الشخصية، كما يجب أن تدرك كل من مصر والجزائر أن الهدف الحقيقى من كونهما مسؤولين عن تنسيق أشغال الملفين الأمنى والسياسى ليس ببساطة رفع التقارير لوزير الشؤون الخارجية التونسى، الذى سيقوم بدوره برفع تقرير آخر لوزراء خارجية دول الجوار، الذى اقترحت مصر أن تستضيفه فى أغسطس القادم، فالمسألة أكبر بكثير من كونها عملية بيروقراطية تنتهى برفع التقارير. فالهدف الحقيقى لفرق العمل هو تحديد الفاعلين على أرض الواقع، وتمكين الدولة الليبية من احتواء الفاعلين غير المنتمين إليها. وفى النهاية، تظل حالة عدم الاستقرار فى ليبيا تشكل تهديدًا أمنيًّا وسياسيًّا لمصر. فالمسألة ليست قضية العلاقة الحدودية وحسب، ولا هى قضية التهديدات الأمنية التى يشكلها غياب الدولة بمفهومها المؤسسى فى ليبيا، بل هى أيضا قضية الفرص التنموية، والاقتصادية، والسياسية التى تستطيع مصر أن تخلقها لنفسها داخل ليبيا.