تجدد الاحتجاجات ضد نتنياهو في تل أبيب وأماكن أخرى.. وأهالي الأسرى يطالبونه بصفقة مع حماس    ياسر عبدالعزيز: الخوف هو السبب الرئيسي في إخفاق الإعلام الغربي مؤخرا    أول رد من نتنياهو على فيديو الجندي الإسرائيلي المُتمرد (فيديو)    أسر وقتل جنود إسرائيليين في كمين مركب بغزة وأبو عبيدة لعائلات الأسرى: ترقبوا ما سننشره    «المصريين الأحرار»: قرارات العدل الدولية خطوة في طريق طويل لتحقيق العدالة    هكذا احتفل إمام عاشور بدوري أبطال أفريقيا.. صور    مبابي يودع باريس سان جيرمان بحصد لقب كأس فرنسا 2024    أول تعليق من مدرب الترجي على خسارة نهائي إفريقيا    نتائج صفوف النقل عبر الموقع الإلكتروني ب«تعليم الجيزة» اليوم    4 ظواهر جوية تضرب البلاد خلال الأسبوع الجاري.. تحذير من الرياح المثيرة للأتربة    «كتاب ونقاد السينما» تكرم فيلم «رفعت عيني للسما» الفائز بمهرجان «كان» الاثنين    مصر في 24 ساعة| السيسي يُصارح المصريين بأزمة انقطاع الكهرباء.. والأهلي يتوج بالأميرة السمراء    الملا: نتحمل فرق تكلفة 70 مليار جنيه لإمداد وزارة الكهرباء بالغاز فقط    قطع المياه اليوم لمدة 6 ساعات عن بعض المناطق بالأقصر.. تعرف عليها    "نيوزويك": بوتين يدرس التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع أوكرانيا    وزير المالية: سبب أزمة الكهرباء عندنا دولار ومعندناش جنيه.. ولميس الحديدي «جديدة دي»    61 ألف جنيه شهريًا.. فرص عمل ل5 آلاف عامل بإحدى الدول الأوروبية (قدم الآن)    رئيس "زراعة الشيوخ": المشروعات التنموية في قطاع الزراعة تحقق الأمن الغذائي    مروان عطية: هدف رامي ربيعة «ريحنا».. وتفاجأت بنزول ديانج    رابطة النقاد الرياضيين تشيد بالتنظيم الجيد في نهائي دوري أبطال إفريقيا    «قول حاحا أنا متكيف بصراحة».. هتافات الأهلاوية بعد هزيمة الترجي التونسي    بيرسي تاو يُهادي جماهير الأهلي بعد التتويج بدوري أبطال أفريقيا (فيديو)    هل خطة قطع الكهرباء مؤقتة أم دائمة؟.. وزير المالية يُجيب    اليوم.. افتتاح دورة تدريبية لأعضاء لجان الفتوى بالأقصر وقنا وأسوان    صوّر ضحاياه عرايا.. أسرار "غرفة الموت" في شقة سفاح التجمع    وزير البترول: محطات توليد الكهرباء تستهلك 60% من غاز مصر    زاهي حواس: بناء الأهرامات كان المشروع القومي للمصريين القدماء.. واستغرق 28 عاما    فجر السعيد تنتقد شيماء سيف بعد التكميم: دمها صار ثقيل"    "ساكتين ليه".. الرئيس يوجه رسالة غضب ل 3 وزراء (فيديو)    آلام التهاب بطانة الرحم.. هل تتداخل مع ألام الدورة الشهرية؟    أعراض الربو المبكرة عند الأطفال    مكملات غذائية تضر بصحتك أكثر من نفعها    بعد تصدره تريند جوجل.. أعمال ألفها هشام ماجد    فرحة لاعبى الأهلى بعد الفوز على الترجى والتتويج ببطولة أفريقيا    بوركينا فاسو تمدد فترة المجلس العسكري الانتقالي خمس سنوات    مستشار وزير الزراعة: الرئيس السيسى افتتح 8 أنشطة كبيرة كل نشاط بمثابة بطولة    رئيس جامعة طنطا يشارك في اجتماع المجلس الأعلى للجامعات    شكرًا للرئيس.. الإعلام حقلة "وصل" بين التنمية والمصريين    الأزهر للفتوى يوضح العبادات التي يستحب الإكثار منها في الأشهر الحرم    الأزهر للفتوى يوضح حُكم الأضحية وحِكمة تشريعها    محمود بسيوني: الرئيس يتعامل مع المواطن المصري بأنه شريك فى إدارة البلاد    رئيس «إسكان النواب»: حادث معدية أبوغالب نتيجة «إهمال جسيم» وتحتاج عقاب صارم    مصدر مطلع: عرض صفقة التبادل الجديد المقدم من رئيس الموساد يتضمن حلولا ممكنة    خلال زيارته لجنوب سيناء.. وفد «صحة النواب» يتفقد أول مستشفى خضراء صديقة للبيئة.. ويوصي بزيادة سيارات الإسعاف في وحدة طب أسرة وادى مندر    «الري»: إفريقيا تعاني من مخاطر المناخ وضعف البنية التحتية في قطاع المياه    لعنة المساخيط.. مصرع شخصين خلال التنقيب عن الآثار بقنا    نتيجة الصف الرابع الابتدائي 2024 .. (الآن) على بوابة التعليم الأساسي    موعد عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات.. ومواعيد الإجازات الرسمية المتبقية للعام 2024    المدن الجامعية بجامعة أسيوط تقدم الدعم النفسي للطلاب خلال الامتحانات    القوات المسلحة تنظم المؤتمر الدولي العلمي للمقالات العلمية    ضبط تشكيل عصابي تخصص في الاتجار بالمواد المخدرة فى المنوفية    جارديان: واشنطن ولندن تدعمان تل أبيب ضد العدل الدولية بعد تراجعهما حول رفح    توقيع برتوكول تعاون مشترك بين جامعتي طنطا ومدينة السادات    وزير الأوقاف: تكثيف الأنشطة الدعوية والتعامل بحسم مع مخالفة تعليمات خطبة الجمعة    علاج 1854 مواطنًا بالمجان ضمن قافلة طبية بالشرقية    مفاجآت جديدة في قضية «سفاح التجمع الخامس»: جثث الضحايا ال3 «مخنوقات» وآثار تعذيب    ضبط 14 طن قطن مجهول المصدر في محلجين بدون ترخيص بالقليوبية    متصلة: أنا متزوجة وعملت ذنب كبير.. رد مفاجئ من أمين الفتوى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخديو إسماعيل.. صانع نهضة أم زير نساء؟
نشر في التحرير يوم 17 - 07 - 2014

لم يكن الخديو إسماعيل، ابن إبراهيم باشا ابن محمد علِى باشا «الكبير»، مؤسس الأسرة العلوية فى مصر، والذى حكم المحروسة خلال الفترة من (1863 -1879)، حاكما عاديا ضمن من حكموا مصر عبر تاريخها المديد، لم يكن مجرد وريث عرش عابر، جاءت به الأقدار ليتولى زمام أمور بلد بحجم مصر وموقعها وتاريخها، لكنه كان «حاكما من طراز خاص».. سياسيا محنكا بمقاييس عصره، وملكا ذا شخصية مستقلة وقادرة على العمل والإنجاز غير المسبوق، طموحا لأقصى الدرجات، حلم بأن يطال النجوم بل يناطحها، لكنه دائما كان ينظر إلى الأعلى وإلى الأمام دون أن يتفقد مواقع قدميه..
الباشا الحفيد.. الخديو إسماعيل
بعيدًا عن الصور والتصورات التى تجافى الحقيقة وتخالف الواقع، فإن إسماعيل أراد لمصر أن تكون «قطعة من أوروبا» على الحقيقة لا المجاز، بإجراءات وسياسات توسع فيها وأنفق عليها بسخاء شديد، ربما بما لم يسبق له مثيل فى تاريخ مصر الحديثة، أثمرت «تحديثات» مهولة على مستوى البنية التحتية، وشهدت مصر فى عهده صفحة جديدة من تاريخها، فيها من الإنجازات والرقى ما فيها، وفيها من عوامل الضعف كثير، حتى إنه يصدق القول بأن عصره كان «عصر المتناقضات» الكبيرة، كما كان عصر «تغييرات شاملة وجذرية» فى شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
سلسلة طويلة ومتتابعة، على مدار سنوات حكمه الستة عشر، من الإنجازات الحقيقية على أرض مصر، سجلت كلها فى كتاب التاريخ مسبوقة بكلمة «أول».. «أول مدرسة للبنات»، «أول مدرسة للصم والبكم»، «أول دار للكتب»، «أول متحف للآثار المصرية»، «أول خط للبرق والتليغراف»، «أول شبكة مواصلات عصرية تربط المدن المصرية».. وغيرها الكثير جدًا.
سلسلة من «الأوليات» والأعمال التى لم يسبقه إليها أحد، سجلت باسمه بحروف من نور، ولا مجال لإنكارها أو حجبها عنه، لكن وفى المقابل كان من آثار الإنفاقات الرهيبة على سياسات الإصلاح والإنشاءات الحديثة والعمران الحضرى، اعتمادًا على الاقتراض، «إغراق مصر فى الديون» والوصول بها إلى حافة الإفلاس، وكانت حجة القوى الاستعمارية الكبرى لمحاصرة الدولة المصرية الحديثة فى «تأسيسها الثانى»، ومهدت لاحتلال بريطانيا لمصر عام 1882.
هل كان الخديو إسماعيل، صاحب مشروع تحديثى وحلم كبير يجعل مصر أمة متحضرة وعظيمة وناهضة بين الأمم أم مجرد مغامر أخرق كان يسعى إلى مجده الشخصى وطموحه الذاتى دون النظر إلى مستقبل الوطن ومصير أبنائه؟
حاول الكثيرون الإجابة عن هذا السؤال، فى مصر وخارجها، وتصدى عدد من أبرز الكتاب والمؤرخين إلى كتابة تاريخ إسماعيل بعين العدل والإنصاف، بعدما رسخت فى الأذهان صورة غائمة تبدو إلى حد كبير «جائرة» و«منقوصة» للرجل وعهده، فعندما يذكر اسم الخديو إسماعيل، تقفز إلى الأذهان غالبا السلبيات التى شابت حكمه، من وقوع مصر فى ربقة الديون، والأزمة المالية التى أخذت بخناقها قبيل نهاية حكمه، ثم التدخل الأجنبى الذى بدأ به العد التنازلى للاحتلال البريطانى الذى حدث بعد 3 سنوات من إقصاء إسماعيل عن الحكم.
ومن المهم الإشارة إلى أن تلك الصورة ترجع إلى أدبيات الحركة الوطنية المصرية منذ العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر التى حملت إسماعيل مسؤولية وقوع مصر فى براثن الاحتلال البريطانى، واستمرت حتى عهد ابنه الملك أحمد فؤاد الذى بذل جهدا كبيرا فى تحسين صورة والده فى التاريخ بتشجيع بعض الكتاب الأجانب والعرب على إبراز الجوانب الإيجابية المهملة فى عصر والده..
(اهتم الملك فؤاد اهتماما كبيرا، فاق نظراءه من الأسرة العلوية، بتاريخ أسرة محمد على، فأنشأ دار الوثائق الملكية فى عابدين، وجمع وثائق محمد على والخديو إسماعيل، وأحضر المؤرخين من أوروبا، وشجع على كتابة تاريخ محمد على فى الجامعة المصرية لهدف سياسى، لإظهار منجزات الأسرة العلوية الحاكمة).
وقد يقترن بتلك الصورة الباهتة لذلك الحاكم إسرافه الشديد فى إنفاق المال العام، وتبديده لثروة البلاد من أجل تحقيق مجد شخصى مزعوم، من هنا يبدو مبررا تلك الكثرة الملحوظة للكتب والدراسات التى أرَّخت لعهد إسماعيل، وعلى رأسها «عصر إسماعيل» لمؤرخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر، عبد الرحمن الرافعى، وهو من أهم الكتب وأشملها فى استقصاء أحداث تلك الفترة.
ومنها أيضا كتاب «تاريخ مصر فى عهد الخديو إسماعيل باشا» لإلياس الأيوبى، وكتاب المؤرخ الإنجليزى كرابيتس «إسماعيل المفترى عليه»، وكتاب «الإمبراطورية المصرية فى عهد إسماعيل» لمحمد صبرى السوربونى، و«إسماعيل كما تصوره الوثائق التاريخية» لقطاوى باشا، وغيرهم من الكتاب والمؤرخين الذين كتبوا بالفرنسية والإنجليزية والعربية ليقدموا الوجه الآخر لعصر من أهم عصور مصر الحديثة.
غير أن تلك الكتابات لم تنجح إلا قليلا فى تحسين صورة إسماعيل التى استقرت فى أذهان المصريين باعتباره المسؤول الأول عن تهيئة مصر للوقوع تحت الاحتلال البريطانى.
وما بين «رحلة الصعود والسقوط» محطات فاصلة فى حياة إسماعيل وبالتبعية تاريخ مصر، محطات تبرز حجم الإنجاز والأثر، محطات شاهدة على «رجل حكم مصر» اسمه الخديو إسماعيل.
شراء «الاستقلال»
لم يأت جهد وإنجاز إسماعيل من فراغ، ولم يكن طموحه باستئناف حلم جده الكبير محمد على باشا فى إنجاز مشروع تحديث مصر، ووضعها فى مصاف الأمم المتحضرة القوية، «وهما كبيرا» -كما اعتبره البعض- أو «حلما زائفا» كما وصفه آخرون، لكنه كان مدركا تماما لأبعاد تجربة جده الباشا الكبير. ورث إسماعيل دولة مثقلة بالديون، ومكبلة عن ممارسة سيادتها من خلال علاقتها بالدولة العثمانية وشركة قناة السويس والقناصل الأوروبيين والجاليات الأجنبية، فبعد معاهدة لندن 1840 ثم ضرب جيش محمد على بمرسوم 1841 فى سياق الإجهاز على المشروع الحداثى الأول فى الشرق العربى، والذى أجبر على فتح أبوابه أمام البضائع الأوروبية وأمام التدخل الأجنبى وأمام الضغط الأوروبى، حاول إسماعيل (ومن قبله بقدر ما محمد سعيد باشا) إنجاز مشروع «التحديث الثانى لمصر» على أساس الارتباط بالغرب الأوروبى، ومن منطلق أن تكون مصر «قطعة من أوروبا».
سعى إسماعيل إلى تغيير الوضع الذى فرضته تسوية عام 1840 فى علاقة مصر بالدولة العثمانية أو «على الأقل توسيع امتيازات مصر بحيث تزول القيود الباقية على الإدارة المصرية، فتنال الحكومة كامل حريتها فى الإدارة الداخلية، وتقرير علاقتها بالمقيمين فيها من الأجانب للحد من مساوئ الامتيازات»، وكذلك تحقيق ما يتطلبه التقدم الاقتصادى من حرية عقد المعاهدات التجارية مع الدول وإطلاق يد الحكومة فى الاقتراض، وتكوين قوة عسكرية للدفاع عن مصر، وتوسيع ممتلكاتها فى إفريقيا. كانت خطة إسماعيل وفق رؤيته لتحديث مصر تتمثل فى إنشاء «دولة مصرية عصرية» تتخلص من كل القيود التى تحد من سيادتها، وذلك من خلال برنامج محدد يبدأ من إلغاء الامتيازات الجائرة فى عقد شركة قناة السويس، ثم السعى إلى استكمال استقلال مصر، والحد من مساوئ الامتيازات الأجنبية، فضلا عن توسيع ممتلكاتها فى إفريقيا، وتبنى إسماعيل فى سبيل ذلك حركة إصلاح داخلية واسعة، نشطة وعصرية. ولكى يحقق إسماعيل أهدافه الطموحة كان عليه توثيق علاقاته وصلاته بعاصمة السلطان العثمانى بالزيارات المتكررة وبذل المال والهدايا بسخاء شديد، ووثق صلاته بوزراء السلطان ورجال البلاط العثمانى، بل إنه جعل له وكيلا فى عاصمة الدولة ينثر الذهب ويدفع الرشاوى ليحصل على «الفرمانات» التى حققت لمصر الكثير من مزايا الحكم الداخلى ورفعتها إلى مستوى «الاستقلال الذاتى»، كان من أهمها: فرمان عام 1866 الذى أقر وراثة الحكم فى أكبر أبناء الوالى من صلبه، والاحتفاظ بالنظام الخاص للتداول بالعملة المصرية، وزيادة عدد الجيش المصرى، وإعطاء الوالى حق منح الرتب المدنية. ومنها كذلك فرمان عام 1867 الذى أقر لوالى مصر بلقب «خديو» (وهى كلمة فارسية تعنى ملك) ومنح الحكومة المصرية الحق فى وضع اللوائح والقوانين والتنظيمات المالية والإدارية وعقد اتفاقات مع الدول الأجنبية بشأن رعاياها، وبشرط أن تكون متوافقة مع قوانين الدولة ومعاهداتها «مع الرجوع إلى الباب العالى لضمان الموافقة».
ثم صدر الفرمان الشامل عام 1873 والذى بموجبه تم جمع كل الفرمانات السابقة التى صدرت لولاة مصر، لتنال من خلاله كيانا خاصا يميزها عن بقية ولايات الدولة العثمانية ولتصبح مستقلة داخليا بشكل كامل وتام.
واستغل إسماعيل حدث افتتاح قناة السويس ليطوف أرجاء العواصم الأوروبية لدعوة ملوكها لحضور الاحتفال الضخم، كان يتصرف كما لو كان «ملكا مستقلا».
واقترن اسم إسماعيل بتدشين أول نظام نيابى فى مصر، وتشكيل الوزارات المسؤولة، وذلك بإنشاء مجلس شورى النواب (22 أكتوبر 1866) الذى اعتبر أنه أساس المدنية والنظام وعليه مدار العمران، وهو السبب الموجب لنيل الحرية التى هى نبع التقدم والترقى وهو الباعث الحقيقى على بث المساواة، وفى الحقوق التى جوهر العدل وروح الإنصاف.
وكان الخديو إسماعيل أيضا من أقر «اللائحة الوطنية» التى وضعها شريف باشا، ووقع عليها أعضاء مجلس شورى النواب والأعيان والعلماء والوجهاء عام 1879، باعتبارها أول مشروع دستور نيابى برلمانى فى مصر.
رحلة الملوك إلى قناة السويس
فوق منصة الشرف جلست الإمبراطورة «أوجينى»، وعلى يمينها الخديو، ومن حولها أميرة هولندا، والأمير توفيق ولى عهد مصر، وسفير إنجلترا وإمبراطور النمسا، وولى عهد بروسيا، وهنرى أمير هولندا، والأمير مورا، والكونت «كيزرلنج». ووقف خلف الإمبراطورة كل من الأمير طوسون باشا، والأمير عبد القادر (أمير الجزائر)، وقد وضع الوشاح الأكبر لجوقة الشرف على ردائه الأبيض.. كان هذا المشهد صبيحة يوم 16 نوفمبر عام 1869، يوم الافتتاح الأسطورى لقناة السويس.
جعل الخديو إسماعيل من احتفالات افتتاح قناة السويس «حدثا عالميا مبهرا» بكل معنى الكلمة، وكلف الرسام المشهور إدوارد ريو بإعداد كتاب يهديه إلى الملوك وعظماء المدعوين الذين حضروا الاحتفالات. لقد أراد حاكم مصر المستنير بهذا الكتاب توثيق حدث فريد ليحتل مكانة مرموقة فى سجل ذاكرة العالم. أربعون لوحة مائية رسمها «ريو» تذكر الرؤوس المتوجة فى حفلات أبهرتهم روعتها ودقة تنظيمها، ضمها الكتاب التوثيقى النادر «افتتاح قناة السويس رحلة الملوك» (صدرت طبعة حديثة منه عن المركز القومى للترجمة قبل سنوات قليلة).
كانت «قناة السويس» أهم مشروع أنجز فى مصر فى تلك الفترة، وقاد حفر القناة إلى إيجاد أقصر طريق بين أوروبا والشرق، وبالتالى تدفقت التجارة ورؤوس الأموال عبر ذلك الممر الحيوى، مما أنعش مصر اقتصاديا، وكثيرون لا يتذكرون من عهد إسماعيل سوى الحفل الأسطورى الباذخ لافتتاح القناة، عام 1869، والتكاليف الباهظة التى تكلفها هذا الحفل.
لكن كثيرين لا يعلمون أيضا أن الخديو إسماعيل قد نجح فى تعديل شروط الامتياز مع شركة قناة السويس الأجنبية، فحصلت الحكومة المصرية بموجب هذا التعديل على الحق فى حفر جزء من ترعة المياه العذبة وتنازلت لها الشركة عن حقوقها فى ملكية الأراضى الواقعة على طول الترعة، ووافقت الشركة على إلغاء «السخرة» مقابل تعويضها ماليا، وبذلك نجح إسماعيل فى كسب مزايا مهمة حين نزع عن الشركة كل صفة «سياسية» تمس السيادة الوطنية، لتستعيد الحكومة المصرية كامل سيادتها على أرض مصر، وحرية العمل لأبنائها.
صحيح أنه نتج عن ذلك إرهاق الخزينة المصرية، مما أدى إلى الاستدانة واضطرت الظروف المالية السيئة التى واجهها إسماعيل بعد ذلك إلى بيع أرباح الأسهم المصرية عام 1869، ثم إلى بيع الأسهم عام 1875.
التحديث.. إرادة مصرية بخبرات أجنبية
سار الخديو إسماعيل على خطى جده الباشا محمد على فى إقامة قاعدة اقتصادية حديثة لمصر وزيادة الإنتاج الزراعى، خصوصا القطن، ولكن من خلال الاستدانة الباهظة التكاليف لإنشاء الجسور وحفر القنوات والمشروعات الزراعية، ولعبت مشروعات الرى الكبرى؛ كترعة الإسماعيلية، وترعة الإبراهيمية، وشبكة الترع الأخرى، دورا مهما فى إتاحة الرى الدائم، وزيادة الإنتاج الزراعى زيادة أفقية ورأسية، استفاد بها ملاك الأراضى الزراعية، فكان لذلك كله أثر ملموس على المجتمع الريفى خصوصا، وعلى التطور الاجتماعى فى البلاد عامة.
كما قام إسماعيل بتوسيع وتحديث نظام الإدارة الذى أقامه محمد على باستحداث نظام الجمارك بإشراف الأوروبيين، وأصلح مصلحة البريد، وأحدث انقلابا فى التشريع، واجتهد فى منع الرق والسخرة، وبلغت ميزانية التعليم فى عهد إسماعيل 80 ألف جنيه أضيف إليها من بعد دخل الأراضى التى استردت من شركة قناة السويس ليصير التعليم مجانيا وليحصل الطلاب على ما يحتاجونه.
وخلال سنوات حكم إسماعيل جرى ما أسماه المؤرخ الراحل يونان لبيب رزق «الاجتياح الأوروبى» لأرض الكنانة، حتى وصل عدد الأجانب المقيمين فى مصر قرب نهاية عصره إلى 68 ألفًا، وهو الاجتياح الذى فرضته وصنعته تطورات اقتصادية عديدة؛ منها:
بناء السكك الحديدية، والذى بدأ منذ عصر عباس واستمر فى عهد خَلَفَيه، حتى إن طول خطوطها بلغ 1300 كيلومتر عام 1880 كما بلغ خطوط طول التليغراف 5200 كيلومتر، وزيادة مساحة الأراضى المزروعة بالمحاصيل النقدية نتيجة لمشاريع الرى التى أمكن تنفيذها خلال تلك الفترة حتى بلغ طول قنوات الرى 8400 ميل، هذا فضلا عن افتتاح قناة السويس للملاحة العالمية 1869، وما ترتب على ذلك من تعاظم المصالح التجارية والمالية لرجال الأعمال الأوروبيين فى البلاد.
وكان إقدام إسماعيل على إلغاء الرق متغيرا مهما فى بنية النخبة التركية الحاكمة التى كانت تجدد دماءها حتى نهاية عهد سعيد وأوائل عهد إسماعيل باستيراد العناصر التركية والشركسية للخدمة فى سلك ضباط الجيش ومراكز الإدارة، مما كان له كبير الأثر على تكوين النخبة الحاكمة، وفتح الباب تدريجيا لاندماجها فى أعيان الريف من المصريين، وإن كان إلغاء الرق لم يقض نهائيا على استخدام الرقيق الأسود فى الخدمة المنزلية، فقد ظلت التجارة السرية فى الرقيق الأسود قائمة رغم أنف القانون حتى التسعينيات من القرن الماضى.
ويمكن القول إن عصر إسماعيل شهد «تنمية اقتصادية» حققت نجاحا بارزا فى مجال الزراعة وإخفاقا كبيرا فى ميدان الصناعة، فالعصر، عندئذ، عصر التوسع الإمبريالى بعد نضج الرأسمالية الصناعية فى أوروبا، والتنمية التى سعى إسماعيل إلى تحقيقها تمت فى إطار الليبرالية الاقتصادية النسبية التى فرضت على مصر عند نهاية حكم محمد على، وفى ظل زحف رؤوس الأموال الأجنبية على مصر الذى بدأ عهد سعيد، وبالتالى كان مجال النجاح فى قطاع الزراعة مطلوبا لخدمة المصالح الرأسمالية العالمية التى كانت فى حاجة إلى المواد الأولية (خصوصا القطن المصرى) بقدر حاجتها إلى فتح السوق المصرية أمام منتجاتها الصناعية، ومن ثم كان الفشل نصيب محاولات إسماعيل لتحقيق التنمية فى مجال الصناعة.
التوسع العمرانى.. وإنشاء القاهرة «الرومية»
أراد إسماعيل لمصر أن تكون «قطعة من أوروبا»، فانطلق لتحقيق حُلمه بحماسة البنائين العظام، مستلهمًا تخطيط باريس الجديدة التى صاغها «هاوسمان». واستعان إسماعيل بوزير أشغاله على باشا مبارك، ومساعده محمود باشا الفلكى، على تحقيق الحلم، ولم يطلب من وزيره تدمير بنية المدينة القديمة، بل البدء فى وضع أساس المدينة الجديدة، من حيث تنتهى القاهرة القديمة، فى الفضاء المفتوح نحو الغرب المكانى والحضارى.
توسعت القاهرة وفق تخطيط عمرانى «نموذجى» بمعايير العصر، وكذلك كان شأن الإسكندرية، وأنشئت مدينتا بورسعيد والإسماعيلية، وتوسع ثغر السويس، وساعد مد شبكة الخطوط الحديدية لتربط الصعيد بالدلتا، وأطراف الدلتا بالقاهرة والإسكندرية، على نمو بعض المدن الإقليمية مثل طنطا وكفر الزيات والمنصورة والمنيا وأسيوط وغيرها من مدن الأقاليم، حسب المؤرخ الكبير رؤوف عباس.
لكن تظل درة العمران الحضرى فى عصر إسماعيل هى «القاهرة الحديثة»، أو «القاهرة الخديوية»، الباقية والشاهدة على أكبر منجز عمرانى حضارى تركه إسماعيل، فإلى جانب الأحياء القاهرية القديمة المعروفة، أنشئت أحياء جديدة فى «الظاهر والفجالة وشبرا والإسماعيلية حتى قصر الدوبارة»، كما توسعت المدينة ناحية الغرب خصوصا بعد مد الكبارى والجسور، فكان الكوبرى الذى ربط بين الروضة والجزيرة، وآخر ربط بين الروضة وقصر العينى، وثالث ربطها بمصر القديمة.
وفى الوقت ذاته نشأت أحياء تركز فيها الأجانب، بدأت بالأزبكية، ثم انتقلت إلى جاردن سيتى التى خُططت على النمط الإنجليزى (الشوارع الدائرية المتقاطعة)، والزمالك وهليوبوليس (مصر الجديدة) التى خُططت على النمط الفرنسى (الشوارع المتقاطعة والبيوت ذات البواكى).
أما حى الإسماعيلية (منطقة وسط البلد الآن) فكانت بداية المدينة الجديدة، أو «القاهرة الرومية» كما أسماها بعض المؤرخين، تلك القاهرة التى سرعان ما جذبت إليها مؤسسات الحكم وقصور الحكام والمراكز التجارية، والحدائق التى كانت نموذجا موازيا للحدائق الباريسية الشهيرة، مستهلة زمنا جديدا من الحراك الجغرافى والاجتماعى والاقتصادى والسياسى والثقافى. على أن أهم إنجازات إسماعيل على الإطلاق هى تلك النهضة غير المسبوقة فى العلوم والفنون والآداب، والتى تزامنت وكانت فى الوقت نفسه نتيجة للحراك الاقتصادى والاجتماعى الحاصل فى بر مصر، بعدما نشط إسماعيل فى إنشاء المدارس بكل درجاتها (التجهيزية والابتدائية والخصوصية) وأعاد ديوان المدارس، وعهد به إلى أبو التعليم فى مصر على باشا مبارك، الذى نظم المكاتب الأهلية ووضعها تحت إشراف الحكومة، فازداد إقبال الناس على الدفع بأبنائهم إلى المدارس، وأنشئت لأول مرة مدرسة لتعليم البنات (السيوفية)، ومدرسة دار العلوم لإعداد المعلمين المتخصصين، وعادت حركة البعثات العلمية إلى أوروبا إلى استئناف نشاطها من جديد بعد توقفها.
أسس إسماعيل كذلك «الكتبخانة» أو دار الكتب المصرية، وهى الأولى من نوعها فى العالم العربى، وقاعة للمحاضرات العامة، والجمعية الجغرافية الملكية، والمتحف المصرى (الأنتكخانة)، وجمعية المعارف، وغيرها من المؤسسات المعنية بنشر المعارف والعلوم فى ربوع المحروسة.
سقوط المشروع.. وبقاء الحلم
رغم كل ما قام به إسماعيل من إصلاحات على طريق الديمقراطية والتحديث العصرى، ورغم قيادته «نهضة حقيقية» فى مصر، وإليه يرجع الفضل فى الكثير من الإنجازات الحضارية التى شهدتها، فإنه لم ينج من فخ الوقوع فى دائرة المواجهات على جبهات عدة، فالحفاظ على ذلك الكيان الناهض فرض عليه «التزامات مالية» أفرغت الخزينة واضطرته إلى الاقتراض، وبالتبعية اضطر إلى أن يخوض سياسيا واقتصاديا المعارك المستمرة ضد الباب العالى فى الأستانة، والإنجليز، والدائنين الأوروبيين، وفشل إسماعيل فى إبقاء الأزمات داخل دوائرها المحدودة، ووقع فريسة للتردد بين الإذعان للتدخل الأوروبى، أو الاعتماد على الدولة العثمانية، أو على الشعور الوطنى المصرى الذى كانت له الغلبة فى خياره، فانتهى الأمر بعزله، وحل مجلس شورى النواب فى العام ذاته (1879)، وبعدها بثلاثة أعوام ستقع مصر فريسة للاحتلال البريطانى عام 1882. انتهى سعى الخديو إلى تحديث مصر من أجل أن تصبح «قطعة من أوروبا» إلى السقوط فى براثن «استعمار أوروبا»، لكن لم ينقطع تجسد الحلم بعزل إسماعيل، أو موته منفيا وهو فى الخامسة والستين من عمره، فلم يكن حلم «الباشا الحفيد» محصنا بما يحقق لتجسده الاستقلال على أرض الواقع، أو الحضور الوطنى الحر فى التاريخ وبالتاريخ، بل كان الحلم يتضمن بذرة «التبعية» التى سرعان ما نمت، وتكاثرت نتائجها السلبية التى ظلت تهدد الاستقلال، وتؤكد الحضور الاستعمارى الذى ازداد ضراوة، خصوصا فى اللحظات الحاسمة من صراعات الحلم ونقائضه، أو لحظات الهيمنة الأجنبية التى أحالت الحلم إلى كابوس متكرر، لا تنتهى كوارثه التى لا تزال تتبطن وعوده. ومهما كانت سلبيات عصر إسماعيل، فإن إنجازاته الاقتصادية لعبت دورا مهما فى التطور الاجتماعى الذى شهدته مصر حتى الربع الأول من القرن العشرين، بما لها وما عليها، وليس أفضل من الكلمات الدالة التى سجلها مؤرخ الحركة القومية عبد الرحمن الرافعى، فى كتابه المرجعى، لتوجز «عصر إسماعيل»: «كان إسماعيل حقا عظيما فى موقفه، شجاعا فى محنته؛ فشجاعته جعلته يغامر بعرشه فى سبيل مقاومة الدول الأوروبية جمعاء.. فآثر المقاومة على الاستمساك بالعرش، وقليل من الملوك والأمراء من يضحون بالعرش فى سبيل المدافعة عن حقوق البلاد، فالصفحة التى انتهى بها حكم إسماعيل هى بلا مراء من الصحائف المجيدة فى تاريخ الحركة القومية، لأنها صفحة مجاهدة وإباء وتضحية، وهى لعمرى تضحية كبرى، ولهذه التضحية حقها من الإعجاب والتمجيد».
النهضة الاقتصادية فى فكر إسماعيل:
(1)
السعى إلى استكمال استقلال مصر
(2)
حرية عقد المعاهدات التجارية مع الدول
(3)
إطلاق يد الحكومة فى الاقتراض
(4)
تكوين قوة عسكرية للدفاع عن مصر
(5)
توسيع ممتلكاتها فى إفريقيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.