هناك اختلافات وتشابهات فى ممارسة الشعائر الرمضانية من بلد إسلامى إلى آخر، كذلك هناك اختلافات فى مظاهر الاحتفال، لأن هذه الاحتفالات تنبثق من الطبيعة القومية الخاصة لكل بلد، وبالتالى فهناك جوهر يتمثل فى أحكام الصوم والصلاة ورؤية الهلال والبداية المطلقة لبدء الصوم، وكذلك الصلوات، مثل صلاة التراويح، وغير ذلك من فروض وسنن، وهناك أعراف وتقاليد وعادات تختلف من بلد إلى آخر، مثل تعليق الفوانيس والزينات، والمسحراتى، وبالطبع المأكولات الضرورية فى الفطار والسحور، وبين كل هذه الاختلافات يكون الشعر والأغنية والحكايات هو المعبر الرئيسى عن روح رمضان، فنجد فى مصر شعراء كتبوا عن رمضان ولياليه وجماله وروحانياته، ونجد شعراء كتبوا مداعبات تظل الأجيال ترددها مثل شعر أبى نواس قبل توبته، أو قصيدة شوقى الشهيرة التى يقول فيها: «رمضان ولّى هاتها يا ساقى مشتاقة تسعى إلى مشتاق» وللأسف فإن هذه القصيدة التى نشرت فى ديوان «الشوقيات المجهولة»، اعتبرها البعض من النقاد المحافظين أنها سقطة لأمير الشعراء، ولا يجب أن يتحدث عن رمضان هكذا، ورمضان له جلال مختلف عن كل الظواهر الاجتماعية الأخرى، فالصوم عبادة، وليس ترفا يساق فيه القول على (عواهنه) هكذا، ولا يعلم هؤلاء الذين انتقدوا شوقى وهاجموه بأن الشاعر لم يرسل هذه القصيدة للاستهانة برمضان، ولا بفروضه، ولا بجلاله، ولكنها قصيدة مداعبة، أرسلها شاعرنا فى لحظة إنسانية خاصة، والذى يريد أن يقرأ الشاعر أحمد شوقى جيدا فله من الشعر الوجدانى، والذى يعلى من شأن الإسلام والمسلمين، فهناك مساحة واسعة لشوقى فى هذا المجال، وعلى أى حال فالشعراء على تعاقب الأجيال والقرون كتبوا شعرا يعبرون فيه عن المظاهر الروحانية والاجتماعية العديدة التى تمر بها مجتمعاتهم، وكان لرمضان نصيب وافر فى ذلك، وهنا قصيدة بديعة للشاعر الفلسطينى الراحل توفيق زياد، عنوانها «رمضان»، منشورة فى ديوانه: «ادفنوا أمواتكم.. وانهضوا»، وقد صدر الديوان فى الأرض المحتلة فى أواخر شهر أغسطس عام 1969، وأعاد نشره فى القاهرة الناقد رجاء النقاش فى مجلة «الهلال»، وكتب مقدمة للديوان جاء فيها: «توفيق زياد من أكبر الشعراء العرب فى الأرض المحتلة، وهو يقف مع إخوته من شعراء الأرض المحتلة أمثال محمود درويش وسميح القاسم وفوزى الأسمر وحنا أبو حنا وغيرهم فى طليعة حركة المقاومة العربية فى داخل إسرائيل، وتوفيق زياد ليس شاعرا كبيرا من شعراء المقاومة، بل هو واحد من أكثر أبناء الأرض المحتلة نشاطا وحيوية ووعيا وارتباطا بحركة النضال.. إنه يشترك فى المظاهرات ويقودها، ويتعرض للاعتقال والمحاكمة ويخرج من سجن إلى سجن، ولكنه يخرج دائما من معاركه المختلفة أكثر صلابة وثورية»، هكذا كان يقدم المصريون أشقاءهم العرب فى كل مكان، والذى حدث مع توفيق زياد الفلسطينى، حدث كذلك مع رفيقه إميل حبيبى، ومع السودانى الطيب صالح، ومع الجزائرى مولود فرعون، ومع السورى حنا مينا، ومع اللبنانى حسين مروة، وقبلهم جميعا مع أبو القاسم الشابى الذى نشرت له مجلة «أبوللو» قصيدته «صلوات فى هيكل الحب» عام 1932، وأسهمت هذه القصيدة فى التعريف الواسع بهذا الشاعر الكبير. وقبل أن نستسلم للحنين للحظة عاطفية من الزمن، نتمنى أن نرى تطورا لها فى هذه المرحلة، نعرض قصيدة «رمضان كريم» الاحتفالية، والتى نشرت فى هذا الديوان المقاوم، والقصيدة رغم الهيمنة الروحانية والرمضانية، فإن الشاعر أراد أن يدرج أيام رمضان فى فلسطين، ليست أياما للسمر وفقط، بل هى أيام للحياة والمقاومة، وهو اختار ليلة العيد، إذ يكتب فى مطلعها: «غدا العيد فالأرض شذى ووعود والليلة صافية.. بستان نجوم وعباءة أحلام وسلام والقمر المتألق كأس نديم والقرية لا تغفو.. فالليلة عيد» وببيت -أبى عبد الرحمن- تجمعت الحارة تفتل كعك العيد وتودع آخر ساعات من رمضان وتعيش الليلة حتى الصبح تتحدث تشرب قهوتها.. وتثرثر ويقص الواحد للآخر ما يتيسر عن أشياء أمرّ من العلقم وأمان كالعسل الأشقر وعن الوطن الغالى والفردوس المسلوب وعن السدّ العالى وبلاد المسكوب وبو حريد وعنتر» ويسترسل توفيق فى تجلياته الشعرية الدافقة، ولا يقصر الأمر على ما يدور من أحاديث وشجن وحنين وتوحد، بل يدلف إلى وصف البيت الفلسطينى ببعض ما فيه من تفاصيل خاصة، فالبيت كبير وواسع، وهو من أيام الجد الرابع، وفى سقفه يعشش الحمام، «وخوابى الزيت المخزون، وأريج النرجس والزعتر، ودخان التبغ المحروق، غيمات.. غيمات يتبعثر، وهنا وهناك، ينتشر السمّار هنا وهناك، حلقات حلقات: النسوة حول وجاق عجين، وصغار من كل الأعمار، يضجّون، وشباب، فى مرح يتسلون، وشيوخ حول (السادة) والكانون». وبعد أن يطرح الشاعر مفردات الاحتفال بقدوم العيد، ويصف المكان المعبأ بالروحانيات والشعبيات، فلا بد أن يستمع الجمع إلى المذياع «فيدير أبو عبد الرحمن، زر الراديو فى رفق، فيسود الصمت، تسوح نفوس، وتضىء وجوه متعبة، وتميل رؤوس، صوت كرنين الليرات العصملى، يتصاعد فى دفء وأمان: «اتحدوا وأعدّوا العدة للظلّام.. كيلوا لهم الصاع اثنين..»، ويصيح أبو عبد الرحمن: «الله.. الله.. يا عبد الباسط.. يا أطيب من قرأ القرآن، ويردّ الجمع بدون توان: الله... الله.. لا ربّ.. سواه». هكذا يتحول رمضان من طقس دينى خالص، إلى طقس اجتماعى واحتفالى ونضالى كذلك، فالمجتمعات قادرة طوال الوقت على أن تصبغ الظواهر العامة كعمومية الدين، بنبرتها وصوتها الخاص، وتترك فى هذه الظواهر شكل المرحلة التى تعيشها، وبالطبع لا يسمح المجال هنا لإعادة نشر القصيدة الفاتنة كلها لضيق المجال.