البعد العربى والعروبى لم يكن غائبا أبدا عن مصر، حتى لو اختلفت الحكومات والأنظمة والقيادات والساسة، فالشعوب العربية وطلائعها ومثقفوها وكتّابها ومبدعوها دوما على وفاق، وعلى تواصل، ولو لاحظنا منذ أواخر القرن التاسع عشر سنجد أن وجود المثقفين العرب فى مصر، ظاهرة طبيعية، وكما ذكرنا من قبل أن هؤلاء الكتّاب والمثقفين أسسوا مشاريعهم الثقافية من صحف ومجلات فى مصر، ونشروا إبداعاتهم كذلك فى القاهرة، من لم يؤسس مجلة أو صحيفة، راح يكتب فى المجلات المصرية، بل وبعضهم أبدع وكتب ونشر واشتهر فى مصر، فخليل مطران، الذى أطلق عليه «شاعر القطرين»، جاء إلى القاهرة، واشتغل فى جريدة «الأهرام» منذ أواخر القرن التاسع عشر، وكذلك الكاتبة مى زيادة، ونقولا حداد وفرح أنطون وغيرهم، ومن كان ليس مقيما فى القاهرة، راح لينشر أهم كتبه فيها مثل جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة الذى نشر كتابه المهم «الغربال» عام 1923، وكتب له المقدمة عباس محمود العقاد، وظلت العروبة تنتشر ثقافيا وفكريا وأدبيا بشكل واسع فى مصر، وعندما جاءت الخمسينيات، وقد قامت ثورة 23 يوليو، راحت العروبة تبحث لها عن أجنحة سياسية، فنشأت فكرة الوحدة المصرية السورية، وكانت الأرض ممهدة لإيجاد هذه الأجنحة السياسية، وفى ظل ذلك الجو، كانت الصحف والمجلات تحتفى بالكتّاب والأدباء العرب، وضمن هذه الاحتفاليات كان الكاتب والمؤرخ والأديب العروبى والرحّالة أمين الريحانى موضع اهتمام بالغ، ومن بين ما كتبته الصحف عنه، كان هذا البورتريه الذى كتبه صلاح الدين السباعى، ونشرته جريدة «المساء» فى 11يونيو 1959، وعنوان البورتريه كان: «أمين الريحانى.. الكاتب الذى حارب الطائفية»، وفى البورتريه، يستعرض الكاتب حياة الريحانى منذ طفولته، عندما انتزعه أبوه من المدرسة ليعمل فى المتجر لمساعدة أبيه وعمه فى الشؤون الحسابية، ويتحول جزء كبير من يومه إلى أرقام وأعداد، حتى يغلق المتجر فيجد نفسه عاكفا على الكتب، ينهل منها كل مناحى المعرفة، ويلتقى كبار رجال الفكر فى مؤلفاتهم، وسهر الليالى مع ابن خلدون وعاش مع آراء داروين وشكوك هكسلى وسخرية فولتير، ويتوقف عند ولعه بشكسبير، ومحاولاته المبكرة فى التمثيل، فيدخل مدرسة ليتعلم فن الإلقاء، وينضم إلى إحدى الفرق التمثيلية، ويطوف معها فى أنحاء أمريكا لمدة ستة أشهر قام خلالها بتأدية كثير من أدوار هامة فى مسرحيات شكسبير، وتتطور حياة الريحانى، ويكتب النثر والشعر والقصص والروايات وأدب الرحلات، ويصبح الأديب الثانى فى مدرسة المهجر بعد جبران خليل جبران، ولم يكتب الريحانى بالعربية فقط، بل كتب مثل جبران باللغة الإنجليزية، فكتب ديوانا من الشعر بالإنجليزية، كتب عنه ميخائيل نعيمة مقالا بديعا فى كتابه «الغربال» قائلا: (لأمين الريحانى قلم ولوع بالاستكشاف والتنقل، لا ينزل بقعة من مرج الأدب حتى ينزح عنها طالبا سواها، فقد عرفناه بادئا بدء بمقالاته بين اجتماعية وسياسية وأدبية، ثم برواياته بين تمثيلية وغير تمثيلية، ثم بأقاصيصه الصغيرة، وكذلك ببعض شعره المنثور، واليوم نراه فى عالم الشعر المنظوم، إنما الشعر الإنجليزى لا العربى، فقد أتحفنا منذ أيام بمجموعة من نظمه بالإنجليزية دعاها «أنشودة الصوفيين وقصائد سواها»)، ويسترسل نعيمة فى قراءته الممتعة للديوان، وبعيدا عن ذلك فالريحانى يؤلف عديدا من الكتب التى يتداولها المثقفون فى شتى أنحاء العالم العربى، وحسنا فعل الباحث جان دايه مؤخرا عندما جمع خمسين مقالة له كانت مجهولة، ونشرها فى كتاب ليلقى بأضواء جديدة على فكر هذا الأديب الكبير، الذى لم يتقن فنون الكتابة، لكنه كان قد ذهب إلى الأقطار العربية ليقابل قادتها من أجل تمتين العلاقات بين الشعوب والحكومات والأنظمة والثقافات العربية، وكان راعيا للأدباء المهجريين بشكل واضح، وكان الكاتب اللبنانى بول شاؤول قد حقق مخطوطة له تتضمن مذكراته عن لقائه بالأديبة الراحلة مى زيادة، عندما زارها فى مستشفى العصفورية فى لبنان، بعد أن احتال عليها أهلها ودبروا خطة لاختطافها من القاهرة، وفى تلك الأثناء تقاعس الريحانى عن زيارتها لأنه اعتقد فى الإشاعات التى قالت أن مى قد جنت، لكنه عندما تأكد من صحتها العقلية، زارها فى مشفاها، وكان هناك عتاب عميق من مى، ثم مذكراته التى سوف نتحدث عنها فى مناسبة أخرى، ولا أعرف إن كانت أعمال الريحانى الكاملة التى نشرت من سنوات بعيدة، أو المقالات التى جمعها جان دايه، قد تضمنت مقالاته التى كان يكتبها فى مجلة «الرقيب» اللبنانية عام 1911 و1912تحت عنوان «بذور للزارعين»، أم لا؟ وفى هذه النصوص نجد جرأة وشجاعة نادرتين فى ذلك الوقت فى بلاد الشام، فبعيدا عن أحاديثه عن البلاغة العربية ومبدعيها نجده محرضا وثوريا بليغا، فيقول فى أحد نصوصه: (أيها الناس اجعلوا هذه الكلمات شعاركم: قولوا لحكامكم نحن قوم قليلو الطاعة، كثيرو التمرد، لكن طاعتنا من القلب -متى طعنا- بنت الإرادة والإخلاص -ومتى تمردنا- فبحق وتعقل، فلا طاعتنا تعرف الخوف والرياء، ولا تمردنا يعرف التردد واللين)، ويطل الريحانى فى نصوصه يطرح هذه الأفكار الثورية التى تقاوم الطائفية، وتقاتل الأفكار الدينية الجامدة، وفى هذه النصوص المنشورة عام 1912 نجد نصا طويلا رائعا عن مصر نقتبس منه الفقرات التالية: (ربى إن على ضفاف النيل لعرش حوله شموع العلم والهدى نيرات.. إن فى أرض فرعون لبقية روح حية علمية طاهرة زكية تبهج الناصرى وتثلج قلب الهاشمى.. إنها لحية فى الآداب، زكية فى أنوار العلم، علية فى الفنون، طاهرة فى إمارة الشعر وأمرائها.. ما رأيت ملكا للسيف يدوم، ولا سيادة تعزز بغير البر والعدل والحجى.. لشمس اليقين غيبات وعودات، ولآمال النفس هجعات ويقظات.. وتصبح مصر كعبة العلماء وقاعدة ملك النبوغ والذكاء.. أجل إن دولة العلم والآدب لأعظم شأنا وأسمى مجدا وأثبت أعلاما من دولة النار والسيف والدماء)، هذا هو الكاتب والأديب الاستثنائى يبشر بمصر منذ قرن ونيف من الزمان.