هذه مؤشرات مبكرة تبعث على القلق بمجرد تذكر سوابقها! فلقد بدأت تتردد أخبار، مع إعلان فوز الرئيس السيسى، تزف البشرى بقدوم مبلغ 20 مليار دولار من الدول العربية، قيل مرة إنها مساعدة فورية لحل المشاكل العاجلة، ومرة على أنها استثمار لتنشيط عجلة الانتاج، وقيلت تفسيرات أخرى فى مرات أخرى، ثم لحق ذلك ترويج لدعوة العاهل السعودى عن مؤتمر للمانحين الداعمين لمصر حتى تعبر أزمتها، إضافة إلى أخبار أخرى عن ملايين الأطنان من الوقود لتشغيل محطات الكهرباء وللمساعدة فى تحريك المركبات..إلخ إلخ وحتى الآن، يبدو أنه ليس هنالك من هو مسؤول عن السيطرة على نشر هذا الكلام، وإذا كانت الحجة أننا فى زمن تدفق المعلومات وأنه ليس هنالك حجب للأخبار، فلماذا لم يتصد أحد بالتفسير لمدلولات الأرقام، واحتمالية ورودها من عدمه، وعن حدودها على أرض الواقع فى هذا الظرف الذى تعيشه البلاد بحجم مشاكلها وعدد سكانها، لأن ترك هذه الوعود معلقة يساعد على إطلاق خيال الجماهير بأن القافلة على الأبواب وأن الخير قادم على وجه السرعة! بل كان من الأجدى أن يعمل بعضهم، على الأقل من ضمن فريق حملة الرئيس السيسى، على أن يتسق هذا الكلام المعلَن على الجماهير مع خطاب السيسى المتزن، الخالى من وعود براقة عاجلة، بل والمطالِب بعمل جاد من الجميع كشرط لعبور الأزمة الخانقة. ترويج هذا الكلام على معناه المباشر، أو تركه يمر باعتباره ليس من «مسؤوليتنا»، هو نفس المنهج الذى سارت عليه ماكينة الإعلام والدعاية الإخوانية التى كانت لها نتائج عكسية هائلة، وكان دورها حاسما، مع أخطاء أخرى جسيمة، فى إيراد حكم الإخوان موارد التهلكة! لقد غفل حكم الإخوان عن حقيقة كانت أوضح ما يكون بعد 25 يناير، وهى أن الأغلبية الساحقة من الشعب المصرى صارت تتعاطى السياسة، وأن طموحاتها لامست السقف وتحاول اختراقه إلى الفضاء، ولم يعد الكثيرون يقبلون بأن تكون حرية التعبير بأقل من سويسرا، والحرية الشخصية بأقل من السويد، والحرية الدينية بأقل من أمريكا، وحرية الانتخابات ونزاهتها بأقل من بريطانيا، وأن تكون حياتهم مثل أشقائهم العرب، وأن لا تقل حماسة الدولة عن فيتنام فى عز ثورتها، وأن لا تقل ثورية الحاكم عن هوتشى منه! بل، ودون رشادة ولا محاولات للترشيد، تفاقمت الإحلام إلى رغبة عارمة فى أن يتحقق كل هذا الآن وفورا، بل اعتبرها البعض شرطا للمشاركة فى البدء فى اللعبة، بدلا من أن تكون مستهدفات للثورة ينبغى العمل على بلوغها وفق خطط متعددة المراحل، تماما كما لم تصل هذه الدول إلى ما هى عليه الآن إلا بعد جهود مضنية وتضحيات هائلة قدّمتها أجيال بعد أجيال! أما البغددة لدى دول النفط فهذا استثناء من طفرة طبيعية لا تتوفر بشائرها لدينا! وكان خطأ الإخوان التاريخى أنهم عملوا على تغذية هذه الطموحات، وراحوا يزايدون فيما بينهم فى الكذب الممنهج المتدفق مع كل صباح، مرسى شخصيا وعد بمبلغ 200 مليار دولار بمجرد أن يفوز فى الانتخابات، ونسى الأمر بعد الفوز، والشيخ القرضاوى وعد ب 20 مليارا إذا وافق الشعب على دستورهم، ولم يصل مليم واحد بعد تمرير الدستور، إضافة إلى الوعود المنفلتة من قيادات مكتب الإرشاد ومن وزرائهم ومحافظيهم وواجهاتهم التى اختاروها بأنفسهم لتطل على التليفزيون تتحدث بلا مسؤولية عن الخير الذى «نحمله»! فلما تبينت الأوهام والنصب والاحتيال، حدث ما حدث، وأنهى الشعب حكمهم عندما اكتمل عامهم الأول والأخير والذى لن يتكرر مثله وفق المستقبل المنظور! وكل هذا أدعى لكبح جماح الطموح غير المبرر للجماهير، بل والذى ينطوى على مخاطر جمة مع خيبة الأمل بعد تبين الإخفاق، لذلك ينبغى الاستعاضة عن ذلك بإشعال الحماسة للعمل والانتاج، ولا يكفى فى هذا دعوة الرئيس السيسى والتى طالب فيها الجميع بالعمل، وإنما يلزم أن يعلن، وبأسرع وقت ممكن وبأوضح بيان ممكن، عن أولوياته، وعن التراتب فى الإنجاز، وعن المدى الزمنى، لأن الحثّ على العمل وحده قيمة أولى متفق عليها تعيها البداهة السليمة، ولكن ما ينبغى أن يستقرّ فى الوعى العام هو استحالة أن يجرى إصلاح كل شيئ فى وقت واحد وبالسرعة التى أوهم الإخوان الجماهير بها، مع ضرورة الاهتمام بضرورة شرح أن الأثر المباشر للأرقام بالمليارات يتضاءل عندما يتجسد على الأرض فى مشروعات البناء والتشييد وفى تفاصيل الدور الاجتماعى الملقى على كاهل الدولة! الإيمان بحقوق الشعب فى كل مطالبه، بل وأكثر منها، أمر مفروغ منه ولا يجوز تبديد الوقت والطاقة فى مناقشة وجوبه، ولكن ترتيب أولويات المطالب شيئ آخر، بل هو أهم، وهذا، أيضا، دور السياسيين الذى كان معطلا أيام مبارك، ثم توارى فى عام الإخوان الكئيب وراء الكذب والشعوذة، ويُخشى أنه لن يتحقق إذا سُمِح للأحزاب الكرتونية بالسيطرة على البرلمان، دون أن تكون تعبيرا حقيقيا عن الجماهير، بل ودون أن تخوض فى تجربة تطوير مهارات فهم الجماهير وإدراك مطالبهم وإلحاحها على حياتهم!