فى أربعينيات القرن الماضى شاعت جملة تقول إن الذين يغنون فى مصر أربعة، وعبد المطلب واحد من هؤلاء الأربعة، بل زاد الحديث وقيل: «إن الموسيقى المصرية قد اختلطت على سامعيها فى هذا العصر إلى أبعد الحدود، فأصبحت لا هى شرقية ولا غربية، وقلّت العناصر التى حفظت التراث العريق وصانته من كل دخيل، حتى ليكاد المرء يحسب أن ليس هناك مَن يغنى شرقيًّا خالصًا، بعد صالح عبد الحى، إلا محمد عبد المطلب.. فعبد المطلب هو خير مَن يغنى الموال فى هذا الجيل، وهو مَن يهز القلوب بالنغم الشرقى»، هذا الكلام كتبه الشاعر صالح جودت فى بورتريه عن الفنان العظيم محمد عبد المطلب عام 1953، وكان عبد المطلب، أو طلب كما كان يناديه ويدلله جمهوره، ملء السمع والبصر والقلوب والوجدان، ومسارح الغناء، ولم يصل عبد المطلب إلى هذه المكانة من فراغ، ولم يصل عبر ضربات الحظ، أو التقرب من القادة والساسة حتى يحظى بمقعد ثابت هنا أو هناك، فالعكس صحيح تمامًا، إذ إن الحظ عاكسه منذ طفولته، رغم إحساسه العالى بموهبته التى كان يصر على ممارستها بأشكال عديدة، وفى بورتريه وحوار كتبه وأجراه الإذاعى القدير فهمى عمر فى جريدة «المساء» بتاريخ 2 يونيو عام 1959، يتحدث عبد المطلب عن حياته التى لم تكن سهلة أبدًا، والتى كانت كفاحًا يلى كفاح، إذ كان يغنى مقابل جنيه واحد فى الليلة فى بعض دور الإذاعة الشرقية، وسجل فى ذلك الزمن الغابر لبعض شركات الأسطوانات ست أغنيات ناجحة، منها أسطوانته المشهورة: «بتسألينى بحبك ليه» وقد تقاضى من الشركة جنيهين فقط لا غير!! نعود إلى بورتريه فهمى عمر الذى وضعه تحت عنوان «من حبنا حبناه» تيمنًا بالمثل القائل: «مَن حبنا حبناه.. وصار متاعنا متاعه.. ومن كرهنا كرهناه.. يحرم علينا اجتماعه»، يقول فهمى عمر: «ولنبدأ مع طِلِب من أول (السلم)، أراد له والده الشيخ عبد العزيز الأحمر أن يكون مقرئًا يرتل آى الذكر الحكيم، ولكن الفتى كان يحلم بالمدينة، كان يريد أن يهرب من الريف، خصوصًا بعد أن سمع من أحد بلدياته وهو الشيخ عبد اللطيف البنا -وهو المطرب الشهير جدًا فى ذلك الوقت- أن المدينة قد فتحت ذراعيها وأن أغانيه يرددها الخاصة والعامة.. وفى سبيل ذلك كافح طلب.. كافح الجوع والفشل وبعزيمته انتصر عليهما حتى أصبح مطربًا له شعبية واسعة فى الغناء وشخصية ترمز إلى الفنان.. ابن البلد»، ومن المعروف أن طِلب ولد فى 13 أغسطس عام 1907، لا 1915، كما تقول و«يكيبيديا»، فى شبراخيت بحيرة، والتحق بأحد الكتاتيب هناك ليتعلم القراءة والكتابة، وبدلًا من أن يحفظ «اللوح»، أخذ يحفظ الأغانى والمواويل المطبوعة فى الكتب الصغيرة الملونة، وكانت هذه الكتب تحتوى على أغانى المطرب (البحيرى) عبد اللطيف البنا، الذى يعتبره طِلب أول أساتذته فى الغناء، وكان طِلب دومًا يشعر بأن صوته «فيه حاجة غريبة»، وهذا ما شجعه على التواصل، رغم كل ما كان يعانيه فى القرية وفى الأسرة، التى اعتقدت أن الولد خسرت أخلاقه بالمغنى، وكان هو على أطراف قريته يتجمع حوله الفتيان ليستمعوا إلى صوته الذى يصدح بأغنية «اوعى تكلمنى بابا جاى ورايا»، وبعد عناء شديد كان أخوه قد أقنع والده بسفر محمد إلى القاهرة، ويتذكر طِلب أن والدته قد أعطته ستة قروش قبل سفره، وفى القاهرة ذهب به شقيقه إلى الفنان داوود حسنى، الذى يعتبر الأستاذ الثانى فى حياة طلب، وقد قضى عنده عامين تعلم فيهما الكثير، وراح عبد المطلب يجرب حظه فى التياتروهات، لكنه فشل فى إثبات ذاته، ولم يحتمل طِلب قسوة الجمهور فترك القاهرة كلها وذهب إلى الإسكندرية وهو ما زال فى الثامنة عشرة من عمره، والتحق بفرقة «آلاتية»، ولكن الفشل كان يلاحقه، وعانى ضيق الحال، ولم يكن يملك أى دخل، فكانت المساجد مساكنه الدائمة، وعمل «مونولوجستًا»، ولكن الحظ كان أعمى وأصم، فلم يره ولم يسمعه، حتى انضم إلى فرقة محمد عبد الوهاب، ولم يتفق عبد الوهاب معه على أى أجر، ولكن كان أجره تبع القسمة والنصيب ومزاج عبد الوهاب، ولكنه عرف طريق كازينو بديعة مصابنى، هذا الكازينو الذى أخرج كوكبة من الفنانين، فألحقته بديعة بفرقتها بأجر ثلاثة جنيهات شهريًّا، وهنا ابتسمت حياته قليلًا، ثم بدأ عصر الراديو فى عامى 1924 و1925، والتقى عبد المطلب بالموسيقار مدحت عاصم الذى اكتشفه من جديد، وكتبت مجلة «الراديو» آنذاك: «محمد عبد المطلب مطرب مصرى جديد موهوب تفتح له الإذاعة طريق النجاح استمعوا إليه يوم الأحد 25 فبراير سنة 1935»، وغنى عبد المطلب فى هذه الليلة وصلتين نظير ثلاثة جنيهات ونصف الجنيه، يدخل فيها أجر الفرقة الموسيقية التى تصاحبه، وكان ذلك نقطة تحول كبيرة فى حياة طِلب، كما يقول فهمى عمر. ورغم ابتسامات الدنيا لعبد المطلب، فإنه لم يكن سعيدًا فى حياته الزوجية، فتزوج ثلاث مرات، الأولى بالراقصة شوشو عز الدين، والثانية نرجس شوقى، والثالثة من شقيقة زوجة الموسيقار محمود الشريف، ورغم أنه قام بالتمثيل فى بعض الأفلام، فإنه لم يوفق، وكذلك تعرض لأزمة روحية عنيفة دفعته إلى إدمان الخمر فى مرحلة من مراحل حياته، وكاد يفقده هذا الإدمان موهبته، إلا أن الله هداه، وذهبت خطاه نحو سيدنا الحسين ليستعيد طاقته مرة أخرى، وليظل الناس فى شدون وابتهاج لكل أغانيه ومواويله العبقرية، من «ودع هواك» إلى «بتسألينى بحبك ليه» حتى «اسأل عليا مرة»، ويموت عبد المطلب فقيرًا إلا من حب الناس وتقديرهم الفريد.