ليس سائقو التاكسيات وحدهم، بل كتاب وفنانون وفلاحون وعمال وساسة وضباط، رجال ونساء، من كل الطبقات الاجتماعية. كلهم يرددون نفس المقولة: إننا شعب جبان، يخاف ولا يختشى، ويحتاج إلى يد من حديد كى تحكمه. من أين أتت هذه الكذبة؟ كيف يقبل شعب على نفسه هذه الأوصاف، بل ويكررها هانئا سعيدا بحاله وبأنه وجد الحل لمشكلته؟ فى كل مرة يردد لى أحد هذه المقولة التعيسة أسأل نفسى فيمَ يفكر هو نفسه! هل يعتقد أنه هو جبان، يخاف ولا يختشى، ويحتاج إلى يد من حديد لتحكمه؟ أحيانا أسأل، فيرد محدثى بأنه هو شخصيا يختشى ولا يخاف، ولا يحتاج إلى يد من حديد ولا من خشب كى تحكمه، لكن المشكلة فى الآخَرين. لكن بالله عليك كيف يستقيم هذا الكلام؟ إن كنا كلنا نعتقد ذلك، فمَن الآخَرون؟ طبعا لا أحد، ليس هناك آخرون، تماما مثلما ليس هناك طرف ثالث خفى. الآخرون هم نحن. الآخرون هم أنت مكرَّرا مرات عديدة. فقل لى: هل أنت جبان؟ هل صحيح أنك لا تختشى؟ وهل صحيح أنك تحتاج إلى يد من حديد كى تلتزم بالقواعد وبالأصول؟ دعنى أُجِب عنك (أو أجب بنفسك على موقع الجريدة الإلكترونى): إجابتى هى لا، لا أنت جبان ولا أنت تخاف ولا تختشى، ولا تحتاج إلى يد من حديد كى تحكمك. أنت حُر، تخاف قليلا أو كثيرا مثل كل البشر، تتملكك الشجاعة أحيانا والجبن أحيانا أخرى. تختشى كثيرا ولا تريد أن يسوء منظرك أمام أحد، ولا حتى الغريب. الحق أنك مسكون بهاجس دائم حول صورتك أمام الناس، وكل ما تريد هو تطبيق القواعد على الجميع: لا تريد أن تكون عبيطا تلتزم بالقانون فى حين يفعل الآخرون ما يحلو لهم. أحيانا تحاول الاستهبال والالتفاف على القواعد، لكنك غالبا ما تفعل ذلك لأنك مؤمن أن هذه القواعد ظالمة، ولا تطبَّق إلا على الضعيف وقليل الحيلة، وأنت لا تريد أن تكون ضعيفا وقليل الحيلة وعبيطا. لكنك حين تجد نفسك فى بلد يطبق القانون على الجميع، تلتزم، غالبا. أحيانا تحاول التذاكى هناك أيضا، من باب الفهلوة لا أكثر. لكنك لست الوحيد الذى يفعل ذلك. وإن بقيت هناك فترة طويلة، وانقرصت من يد القانون حين خالفته، ورأيت كيف يطبَّق على القوى والضعيف، فإنك غالبا ما ينتهى بك الأمر ملتزما به. أنت لا تحتاج إلى يد من حديد كى تحكمك، بل تحتاج إلى يد عادلة وثابتة تدير الأمور. إن كان ذلك صحيحا، فلمَ تنتشر مقولة «الشعب الجبان» كل هذا الانتشار؟ لأنها مقولة مفيدة للاستبداد الذى يحكمنا منذ مئات السنين. مفيدة هى للحاكم المستبد، سلطانا كان أو رئيسا، ليس فقط لأنها تعطيه تبريرا لاستبداده، بل الأهم من ذلك أنها تنيم الشعب كله وتدفع كل شخص من داخله للاستكانة. تجعل كل واحد فينا يقبل الاستبداد لأنه مقتنع أنه شر لا بد منه، لأننا نعيش مع حَوَش وأناس لا خلاق لهم، شعب جبان. نقبله ونحن نأسى على حظنا، لأن أهلنا طلعوا هكذا، والخيار الوحيد أمامنا هو قبول الاستبداد أو الحياة فى فوضى وسط وحوش. إما أنا وإما الفوضى. نفس المعادلة. وإذا سألت نفسك لِمَ تعيش الشعوب الأخرى فى حرية داخل نظام يسوده القانون ردت عليك نفسك الأخرى، المدربة، الملقنة جيدا، إنهم مختلفون عنا، فهم أحرار، ونحن شعب جبان. إيهام كل شخص منا بأن الشعب يخاف ولا يختشى يخفض تكلفة الاستبداد حتى يجعله مجانيا. حين نصدق هذه الكذبة نستكين، فلا يحتاج المستبد إلى أن يقمعنا كى نقبل استبداده، بل إننا، بأيدينا، سنناديه إن رحل ونقول له: إحنا آسفين يا مستبد.