الدراكولات العصرية تمتصّ دماءك بقشة طويلة ملوَّنة (شاليموه)، ولا تستخدم أنيابها التقليدية القديمة! دعونا نتسامَر قليلا، ونسترجع أدبيات «الفامبايرز» الخيالية حتى نتمكَّن من إمعان النظر فى أحوال نظرائهم العصريين الذين تحفل بهم مجتمعاتنا، قبل أن نتحدَّث عن طريقة الخلاص منهم، بداية أؤكِّد لكم أن سيرة الكونت دراكولا الشعبية الأوروبية لم يتم اختيارهم اعتباطا من طبقة النبلاء. الدراكولات كائنات ليلية شريرة مخلَّدة تعيش على شرب دماء البشر، تنام فى توابيتها نهارا لتتجنَّب ضوء الشمس كالخفافيش، وتصحو ليلا لترتكب جرائمها، لكنها إذا ما تعرَّضت لطعنة فى قلبها من وتد خشبى مسنون ترقد فى قبورها فى حالة موت مؤقت، تعود بعده إلى الحياة عندما ينتزعه من صدورها أحمق عابر، أو شرير عابث يفتح توابيتها فى الظلام. تلك الكائنات لا تتكاثر بالزواج، لكنها تنقل صفاتها إلى بشر تعض رقابهم، ولا تمتص دماءهم كلها لكى تميتهم، بل تُبقى على حياتهم، وتغذّيهم بجرعات محسوبة من دمائها تمنحها لهم على مدار ليالٍ متعاقبة يتحولون بعدها إلى مصاصى دماء مثلهم. رغم هذا، وفى ظل خلودهم الأسطورى المرعب فإنهم يفنون إلى غير رجعة عندما يتحقق شرط وحيد فقط هو أن يتعرضوا بكثافة لضوء النهار المباشِر الذى يحرقهم ويحيلهم إلى رماد، وهذه هى نقطة ضعفهم التى تصنع التراجيديا. بالمثل تماما تجد الكيانات الاجتماعية المستغلة التى تحيا بيننا وتمتص دماءنا تعضّ مَن تختارهم بعناية لتنسخهم فى الظلام، وتصنع منهم جيشها محدود العدد، غير محدود القوة، لكى تنمو آمنة ما لم تعطل مسيرة حياتها طعنة تأتى من ثورة، أو من بطل شعبى شجاع يغرس أوتاده فى قلوبها. تلك الطعنات مهما بلغت دقتها وقوتها تعطّل حياتها مؤقتا ولا تميتها، لأنها لا تغنى مطلقا عن ضوء الشفافية الذى يحرقها فى مجال مفتوح، تعمل فى رحابه مؤسسات منضبطة تخضع إلى رقابة شعبية وتظللها عدالة قانونية ناجزة. هل ترى إلى أى مدى يصل التشابه بين الواقع والخيال؟ البطل الشعبى الذى يطعن الدراكولات، التى تقوم ضدها الثورات، عادة ما يرحل تاركا خلفه وحوشا نهمة تتململ فى توابيتها. هذه الوحوش تنزع الأوتاد من قلوبها، وتحطّم قيودها فور رحيله، معلنة عن استعادة سطوتها المرعبة. حدث هذا مع ناصر ومع غيره من الزعامات التى صنعت عدالة مؤقتة، ورحلت دون أن تضع لشعوبها الآليات التى تضمن استمرار نهضتها. الدراكولات الواقعية المستغلة لا تموت إلى غير رجعة إلا بطريقة واحدة وحيدة لم يعرف البشر غيرها حتى هذه اللحظة: ضوء شفافية ساطع يحرقها، ومؤسسات منضبطة يحكمها قانون يخضع الجميع لسيفه البتار. المجتمعات التى تحبو على درب الديمقراطية عادة ما تقع شعوبها أسيرة لحلم الديكتاتور العادل الذى كثيراً ما يتحول هو الآخر بعد فترة، طالت أم قصرت، إلى دراكولا يقود عصابة دراكولات صغيرة تمتص دماء شعوبها. لم يفلت من ذلك التحول البشع إلا قلة قليلة عبر التاريخ. أتعرفون كيف يتحول البطل الشعبى المغوار إلى دراكولا؟ يحدث له هذا عندما تطاله عضات الدراكولات المتمرّسة التى تقوم بمنحه تأييدها بجرعات محسوبة تجعله يتوهم أن خلوده وانتصاره على خصومه لن يتحقق دونهم. هكذا تبتعد الزعامة رويدا رويدا عن جماهيرها، وتتورط فى فاتورة فامبايرز باهظة يجب أن تدفع ثمنها فور وصولها إلى السلطة! ابتعاد البطل المنقذ عن ضوء النهار يصنع منه الدراكولا الجديد حتى وإن بدأت سيرته كفارس يطعن الدراكولات بأوتاده فى قلوبها! ثورة يناير غرزت وتدا فى قلب الفامباير العجوز، فرقد فى تابوته وهو يعبث فى أنفه بانتظار لحظة بعثه من جديد. الشعوب التى يعشش الجهل فى قلوبها تُسكرها رقدة الدراكولا الخالد على ظهره، وتنسى اللحظة التى يتحينها أنصاره لكى ينزعوا الوتد من قلبه حتى ينهض وينتقم ويروى عطشهم لمزيد من الدماء. أفلام مصاصى الدماء عادة ما تكون تافهة، لكن هناك اثنان هما أشهرها وأجملها على الإطلاق، الأول يتناول صانعه ميل برووكس شخصية دراكولا بطريقة كوميدية غير مسبوقة فى تلك النوعية من الأفلام. والثانى، الأروع من وجهة نظرى، هو «مقابلة مع فامباير» الذى يتناول صانعه نيل جوردان أسطورة دراكولا بطريقة فريدة تحكى قصة عجيبة عن رقة مصاص دماء تتعقد حياته عندما يجتاحه شعور بالذنب يجعله يُحاول أن يقتات على دماء الفئران! هذه هى سيرة الدراكولات التى تتطابَق فى عالميْها الواقعى والتخيلى، والتى لا يقتلها إلى الأبد إلا ضوء النهار الكاشف، والتى تسعى دائما لكى تستنسخ نفسها فى ضحايا تختارهم بعناية فائقة. هؤلاء الضحايا يصبحون فى ما بعد من أعتى الدراكولات، أخطرهم على الإطلاق هو القائد الذى يُسلِّم رقبته لعضة يسدد فاتورتها، ونسددها معه من دمائنا، وهو يظنّ واهما أنه يسير على درب الخلود.