اعتمادا على أن «اللبيب عادة بالإشارة يفهم» فلن أكتب اليوم رأى العبد لله، وإنما سأكتفى بخلاصة آراء فريقين اثنين يتقارعان ويتجادلان على الساحة الآن مع أنهما ينطلقان من نقطة اتفاق واضحة، ألا وهى الإقرار والاعتراف بحقيقة إخفاق وفشل المجلس العسكرى فشلا ذريعا وشاملا (بل ونموذجيا) فى إدارة المرحلة الثورية الانتقالية، حتى إنه جعل مشهدها الحالى أشبه بعملية قتل مريض على يد طبيبه، الذى بدلا من أن يعالجه أجهز عليه واستدعى «تربى» ليتولى نقل جثته إلى المقبرة، يعنى ليس نقل مجتمع ودولة من زنزانة القهر والذل والفساد والتخلف إلى عتبات فضاء الحرية والمستقبل الواعد، بل محاولة إحكام غلق أبواب هذه الزنزانة عليهما.. وكأن لا ثورة قامت ولا دنيا تغيرت ولا حاجة أبدا! هذا ما يتفق فيه الفريقان، لكنهما يتناقضان ويختلفان بعد ذلك فى تفسير دوافع القتل على النحو التالى: الفريق الأول، الذى ما زال يحسن الظن بالمجلس المذكور، يفسر ارتكابات جنرالاته الخطايا والكوارث الوطنية التى ظلوا يراكمونها يوميا تقريبا منذ ورثوا السلطة من المخلوع أفندى حتى الساعة، بأنها مجرد فقر وأعراض أنيميا حادة فى الخبرة والكفاءة ومحض «حماقة» فحسب، ولا تعود إلى سوء نية أو فساد طوية! وقد يحلو أحيانا لمحسنى الظن بالمجلس العسكرى، وهم يجاهدون لإثبات براءته من القصد البطال، أن يسرفوا فى مدحه والإشادة به، فتجدهم يغرفون بثقة واطمئنان من تراث العرب فى وصف الحماقة والتعريض بالحمقى، فيذكرونك بقول الشاعر: «لكل داء دواء يستطب به.. إلا الحماقة أعيت من يداويها» فلا تحاول يا أستاذ.. ولعل بعض المحسنين هؤلاء يحذرونك بجد وإخلاص أن «لا تأمن للأحمق والسيف بيده»، «فربما أراد الأحمق نفعك فضرك»، فضلا عن أن كثيرين فى هذه الدنيا يؤكدون ويقطعون بأنه حتى «الحرب هى شأن أخطر من أن يترك للعسكريين».. إلخ. لكن الفريق الثانى يهزأ من الفريق الأول، ويسخر من سذاجة تفسيره دوافع أفعال جنرالات المجلس، الذى يرونه «مجلسا لقيادة الثورة المضادة»، لأنه أصلا وأساسا جزء عضوى من نظام حسنى مبارك الفاسد، الذى ثار الشعب لتقويضه وهدمه واجتثاثه من جذوره، وبناء عليه فإن أفضل مديح للعسكر القائمين على أمر البلاد حاليا هو دمغهم بالتآمر على الثورة والتخطيط لاحتوائها، ثم إجهاضها، طبقا لخطة مبرمجة ومجهزة سلفا. أعضاء هذا الفريق يقرؤون مثلا الأحداث المأساوية والإجرامية التى وقعت، ابتداء من فجر الجمعة الماضى حتى مساء الأحد، خصوصا افتعال حادث حرق «المجمع العلمى» وتدمير أجزاء من مبنى مجلس الشعب، على أنها تشبه تماما مؤامرة حرق مبنى الرايخستاج (البرلمان) الألمانى فى شتاء عام 1933، الذى اتخذته القوى المعادية للديمقراطية ذريعة لتقويض «جمهورية فيمار»، وإنهاء دستورها الذى اعتبر وقتها أفضل الدساتير الأوروبية وأكثرها تقدما، ومن ثم تهيئة البيئة المناسبة لتصعيد النازيين بزعامة هتلر إلى سدة الحكم! لكن الجنرالات يحكمون الآن فعلا.. صحيح، بيد أنهم لا يريدونه حكما مؤقتا بل دائما ولا سبيل لتحقيق هذا الهدف إلا إشاعة مظاهر الاضطراب والفوضى فى البلاد، حتى تمر بيسر وسلام «صفقة» تسليم سلطة التشريع فى البرلمان إلى جماعات الإخوان والسلفيين، مقابل احتفاظ العسكر ب«السلطة العليا» إلى ما شاء الله.. هكذا يقول كل من لا يقبل عقله أن الحماقة وحدها هى سر ارتكابات وخطايا المجلس العسكرى.