القطيع لا يفكر، القطيع تحركه الغريزة قبل تثقيفها. أى قبل عمل العقل والوعى... وسنفترض هنا أن الجموع فى طورها أصبحت شعوبا... أى أضيف إلى غريزتها شىء من عمل العقل.. أو بمعنى أقرب لم تعد الغريزة تتحكم فى البشر، وأتيح للعقل فرصة التفكير والتنظيم، بما يجعل الفرد فى الشعب غيره فى القطيع... والمشكلة هنا فى شعارات مثل «عاوزين دكر»، إنها استعادة أو تعلية لمفهوم «ذكورة الحاكم»... وهى مفاهيم أكبر من حملة السيسى أو من السيسى نفسه.. لكن الحملة وربما لمرشح الرئاسى يستخدمها أو يستفيد منها. وهى ضده إن لم تكن مقتله. وصورة الحاكم الذكر الأعلى الذى يهزم الأعداء. ليس إنها قديمة. ولا ساذجة. ولا حتى إنها مبرر لديكتاتورية... لكن لأنها فكرة رديئة لا مكان لها فى البروباجندا. وذكورة الحاكم صورة زائفة توقظ الجانب الميت/ الذى لم يعد صالحا فى الحياة الحديثة/ لتصعد عليه إلى الحكم. وكما كان المرسى واهما وهو يبرر وجوده بإعادة «أمير المؤمنين» فإن دعاية «الدكر» ستكون وهما من نوع آخر.. ذلك الوهم الذى سيدمر صانعه. بعد أيام قليلة من سقوط بن على فى تونس وصلت وفود أوروبية وأمريكية إلى القاهرة قبل 25 يناير. التقت الوفود عمر سليمان مدير المخابرات وقتها لتفهم كيف ينظر نظام مبارك إلى ما حدث فى تونس... وكان ملخص رؤية اللاعب الرئيسى وحامى النظام هى أن «زين ليس رجلا...»، وما حدث فى تونس على أنّه «خيبة نظام لم يستطع حماية عرشه». وبالتفصيل كانت رؤية النظام عبر حارسه الأولى هى: 1- هى لحظة ضعف فى النظام التونسى. 2- أظهر خطاب بن على الضعف والتراجع وشجع التظاهرات. 3- بن على ضعيف وقليل الخبرة. 4- مصر غير تونس. 5- الغاضبون فى مصر مجموعة مدونين ونشطاء لا علاقة لهم بالشارع. 6- الشعب فى مصر لا يطلب أكثر من الخبز والمرتّب، وعندما نلبّى هذه المطالب يمكننا (إعادة) السيطرة. 7- لا علاقة للشعب بالديمقراطية ولا بالحريات. هذه رؤية ملخّصة لنظرية فى الحكم عن «ذكورة» أنظمة سياسية، تعيش على ترويض شعوب طال قهرها وقمعها، باسم شعارات كبرى وقيم خالدة ومصالح عليا، ظلت تضيق إلى حدود «دفاع الرجال عن قصورهم». وهذه قبائل وعشائر لا دول. هذا عمق نظرة اللاعبين الرئيسيين فى أنظمة ترى الحكم ترويضا والسلطة حديدا ونارا، والخروج عنها شغب لا بد من مواجهته. وإلقاء كسرات خبز للجوعى وتلويح بأوراق مالية، تعيد الوحوش الغاضبة إلى أقفاصها الأليفة. الترويج للسيسى على أنه «الدكر» أو الذكورة القادمة إعلان مسبق بالفشل... أو التعامل مع السلطة على أنه «فيلم تاريخى»... إذا صدق صناعه أنفسهم فإننا سنعيش أياما بين الملهاة والمأساة... أما إذا كانوا يدركون ويبيعون الوهم فى لافتات فإننا سندفع ثمن هذه الفهلوة أضعافا مضاعفة. لأنه لم تعد السلطة مكانا لاستعراضات الذكورة.. والحكام الذين عاشوا على ترويض الشعوب وإلقاء الفتات وصناعة أوهام العداوة... كانت نهايتهم معروفة ومفزعة فى تجارب البشر. أقصد البشر الذين يتعلمون من التاريخ الذين نقلوا بحثهم عن البطولة إلى ساحات أخرى، ولم يعد الحاكم ساحرا ولا ذكرا يستعرض ذكورته فى ساحات الحرب أو الحكم. كل استعراضى بذكورته نهايته كارثة جماعية/ من هتلر إلى صدام حسين/ مرورا بكل الذين جمدوا أو كلسوا شعوبهم عند هذه الدرجة من التطور البشرى ليحتفظوا بمقاعدهم ونشروا وعيا بأن الجمود والتكلس استقرار/وأن التسلط هو «ذكورة مطلوبة» لقمع الخارجين عن القانون/ وأنه يمكن لشعب أن يعيش/ مجرد الحياة إذا اختفى الاختلاف وقمع المختلفين، وأصبحت الدولة ملعبا استعراضيا للمنتصرين على الاختلاف والتعدد. وهذه هى الأوهام التى تسند فكرة «الذكورة» عند منتظرى السيسى كما كان عند منتظرى خيرت الشاطر بمجاهديه.. كلاهما يستدعى الخرافات لحظة الهزيمة... تواضعوا قليلا قبل الكارثة... لا مستقبل دون إقرار أننا سنعيش جميعا وباختلافاتنا هنا على هذه الأرض/ وهذا لا يعنى أننا سنصبح أفضل أو سنتحول إلى ملائكة تنقصنا الأجنحة/ لكن بإدراك أن مصلحتنا وقف هذه الخرافات (عن الذكورة أو إمارة المؤمنين) عن تدمير حياتنا.. وكما أن وقف العبودية أو إنهاء الحرب الأهلية فى دول كثيرة لم يكن بسبب أن الفرق المتحاربة نزل عليها وحى الطيبة والتسامح فجأة.. لكن لأن الخراب والدمار والألم قادتهم إلى إدراك أن «المصلحة العليا» فى الوصول إلى اتفاق على الحياة... اتفاق لا يتطلب أن يتخلى كل فرد أو قطيع عن أوهامه.. لكن يتطلب تغيير النظام الذى أدى بنا إلى هذا الجحيم.