أسعار الخضروات والفواكه بكفر الشيخ اليوم.. البصل ب15 جنيها    السبت 27 أبريل 2024.. نشرة أسعار الحديد والأسمنت اليوم    الجيش الإسرائيلي: دوي صفارات إنذار في منطقة شوميرا شمالي إسرائيل    الجهود المصرية والعربية لتحريك ملف المفاوضات ووقف الحرب على غزة تتواصل    حزب الله يعلن استشهاد 2 من مقاتليه في مواجهات مع الاحتلال    الإمارات تعلن استقبال الدفعة ال 16 من الأطفال الفلسطينيين الجرحى ومرضى السرطان    محمد صلاح يقود هجوم ليفربول في التشكيل المتوقع أمام وست هام    طريقة الرحيل لم تعجبني.. كيف كان الحوار الأول بين بيبو وعبد الحفيظ؟    خروج جميع مصابي حادث حريق جراء سوء الأحوال الجوية بالأقصر    تفاصيل جريمة الأعضاء في شبرا الخيمة.. والد الطفل يكشف تفاصيل الواقعة الصادم    الداخلية: سحب 1255 رخصة لعدم وجود الملصق الإلكتروني خلال 24 ساعة    كيف أدَّى حديث عالم أزهري إلى انهيار الإعلامية ميار الببلاوي؟.. القصة كاملة    حقيقة وقف خطة تخفيف الأحمال منتصف مايو.. مصدر بالكهرباء يكشف    بيان عاجل من هيئة العلماء السعودية بشأن شروط الحج (تفاصيل)    المقاولون العرب تنتهي من طريق وكوبري ساكا لإنقاذ سكان أوغندا من الفيضانات    الأولى من نوعها.. تعرف على أهمية الزيارة المرتقبة للسيسي إلى تركيا    سياسيون عن ورقة الدكتور محمد غنيم.. قلاش: خلاصة فكره وحرية الرأي والتعبير هي درة العقد.. النقاش: تحتاج حياة سياسية حقيقية.. وحزب العدل: نتمنى من الحكومة الجديدة تنفيذها في أقرب وقت    علي جمعة: الشكر يوجب على المسلم حسن السلوك مع الله    هتنام بسرعة| 4 آيات حل رباني لمن لا يستطيع النوم ليلاً.. داوم عليها    أستاذ اقتصاديات الصحة: مصر خالية من الحصبة وشلل الأطفال ببرامج تطعيمات مستمرة    كندا تخصص أكثر من مليوني دولار لصناعة المسيرات الأوكرانية    وزير الخارجية يتوجه إلى الرياض للمشاركة في المنتدى الاقتصادي العالمي    بعد قليل.. الحكم في اتهام مرتضى منصور بسب عمرو أديب    المتهم خان العهد وغدر، تفاصيل مجزرة جلسة الصلح في القوصية بأسيوط والتي راح ضحيتها 4 من أسرة واحدة    اليوم.. الجنايات تنظر محاكمة متهمي "خليه المرج"    اليوم .. الحكم في اتهام مرتضى منصور بسب عمرو أديب    إسبانيا تعلن إرسال صواريخ باتريوت ومركبات مدرعة ودبابات "ليوبارد" إلى كييف    دينا فؤاد: أنا مش تحت أمر المخرج.. ومش هقدر أعمل أكتر مما يخدم الدراما بدون فجاجة    انخفاض أسعار الدواجن اليوم 27 أبريل    سعر اليورو مقابل الجنيه اليوم السبت 27-4-2024 بالبنوك    اليوم، الاجتماع الفني لمباراة الزمالك ودريمز الغاني    بورصة الذهب تنهي تعاملاتها الأسبوعية بخسائر تتجاوز 50 دولارًا | تقرير    إشادة دولية بتجربة مصر في مجال التغطية الصحية الشاملة    دينا فؤاد: مسلسل "الإختيار" الأقرب إلى قلبي.. وتكريم الرئيس السيسي "أجمل لحظات حياتي"    محمد جبران رئيسا للمجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب    "كنت ببعتله تحياتي".. كولر يكشف سر الورقة التي أعطاها ل رامي ربيعة أثناء مباراة مازيمبي    توقعات الفلك وحظك اليوم لكافة الأبراج الفلكية.. السبت 27 أبريل 2024    حكم الشرع في الإسراع أثناء أداء الصلاة.. دار الإفتاء تجيب    أحمد عبد الوهابن يكشف الإصابات التي تعرض لها أثناء تصويره مسلسل «الحشاشين»    وليد عبدالعزيز يكتب: السيارات وتراجع الأسعار    رسالة شديدة اللهجة من خالد الغندو ل شيكابالا.. ماذا حدث فى غانا؟    للحماية من حرارة الصيف.. 5 نصائح مهمة من وزارة الصحة    د. محمد كمال الجيزاوى يكتب: الطلاب الوافدون وأبناؤنا فى الخارج    نتيجة انتخابات نادي القضاة بالمنيا.. عبد الجابر رئيسًا    لدورة جديدة.. فوز الدكتور أحمد فاضل نقيبًا لأطباء الأسنان بكفر الشيخ    دوري أبطال إفريقيا|عبد القادر: الأهلي تأهل للنهائي بجدارة.. وجاهزين ل الترجي التونسي    شعبة البن تفجر مفاجأة مدوية عن أسعاره المثيرة للجدل    الدكتور أحمد نبيل نقيبا لأطباء الأسنان ببني سويف    الأهلي ضد الترجي.. نهائي عربي بالرقم 18 في تاريخ دوري أبطال أفريقيا    بعد حادث طفل شبرا الخيمة.. ما الفرق بين الدارك ويب والديب ويب؟    يسرا اللوزي تكشف سبب بكائها في آخر حلقة بمسلسل صلة رحم.. فيديو    عمل نفتخر به.. حسن الرداد يكشف تفاصيل مسلسل «محارب»    تنفع غدا أو عشا .. طريقة عمل كفتة البطاطس    الترجي يحجز المقعد الأخير من أفريقيا.. الفرق المتأهلة إلى كأس العالم للأندية 2025    السيسي محتفلا ب"عودة سيناء ناقصة لينا" : تحمي أمننا القومي برفض تهجير الفلسطينيين!!    تهاني شم النسيم 2024: إبداع في التعبير عن المحبة والفرح    أعراض وعلامات ارتجاج المخ، ومتى يجب زيارة الطبيب؟    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



21 يومًا فى أمريكا – الحلقة الثانية عشر
نشر في التحرير يوم 22 - 03 - 2014

انخفاض درجة الحرارة إلى صفر مئوية.. أمر طبيعى للغاية
شوارع نيويورك صاخبة ومزدحمة مثل القاهرة.. والأرصفة ممتلئة بعربات الطعام التى يعمل عليها المصريون
نيويورك إذن كانت محطتنا الأخيرة فى رحلة ال21 يومًا فى أمريكا. هذه نهاية مقصودة، أن نختتم اكتشاف الولايات المتحدة بزيارة كبرى مدنها وأكثر زحاما (8 ملايين نسمة يعيشون هناك)، العاصمة غير الرسمية للبلاد، وأرض الصخب والمغامرة والفنون والتجارة التى ترحب بالقادمين من كل أنحاء الدنيا.
من سياتل فى أقصى الشمال الغربى إلى نيويورك فى أقصى الشمال الشرقى، استغرقت الرحلة بالطيران المباشر دفعة واحدة خمس ساعات كاملة، وكعادة كل مدينة زرناها فى أمريكا، استقبلتنا نيويورك بطريقتها الخاصة.. بدرجة التجمُّد.. صفر مئوية!
لم نصدِّق لسعة البرد التى كادت تقضم أجزاء من أجسادنا فور أن خرجنا من المطار إلى الشارع. سارع بعضنا إلى تليفونه الذكى ليتأكد أنه يعيش حقيقة لا حلمًا. لكن درجة الحرارة الظاهرة على التليفون لم تكن بحاجة إلى نظارات مكبِّرة.. درجة الحرارة صفر يا جماعة وعليكم أن تتفاعلوا!
فور الخروج من المطار، استقبلتنا نيويورك بوجه قاهرى بامتياز، سيارات التاكسى الصفراء المميزة تصطفّ فى طوابير طويلة تحسُّبًا لاصطياد زبون غريب منبهر، أصحاب السيارات يحيطون بك وهم يصيحون «تاكسى.. تاكسى»، حاملو الحقائب يتزاحمون حولك وهم يعرضون عليك خدماتهم، غير المجانية قطعًا، حتى إنى تخيلت أن أحدهم قال لنا مبتسمًا «كل سنة وانت طيب يا باشا»! أصوات الصخب والدوشة فى الشارع واضحة جدًّا، حتى إنى ملت على مرافقتنا العزيزة عايدة التى تعشق هدوء واشنطن وبشَّرَتنا بأيام عكس ذلك فى نيويورك قائلًا «لقد فهمت ما قلتِه لنا.. وعمليًّا». ضحكت بابتسامة المنتصر، قبل أن تشير إلى ناطحات السحاب الضخمة التى تحجب عمليًّا ضوء الشمس فى كثير الشوارع قائلة «تَخيَّل لو أنك تسكن فى هذه الناطحات.. مِن أين ترى نور الشمس؟»، مستدركة «لكن ذلك لا يعنى أنكم لن تستمتعوا هنا كثيرًا.. نيويورك مدينة كونية بالفعل.. ولن تجدوا لحظة واحدة لن تنشغلوا فيها بالاكتشاف».
كنا نعبر واحدًا من الجسور المعلَّقة الكثيرة المنتشرة فى المدينة نراقب المعالم وحركة السيارات البطيئة ككوبرى أكتوبر بالقاهرة فى ظهيرة أى يوم عدا الجمعة، عندما تذكرت رائعة عز الدين شكر فشير «عناق على جسر بروكلين»، فسألت عايدة متشوِّقًا «هل هذا هو جسر بروكلين الذى شهد قصة الحب المستحيل بين لقمان المصرى وماريك الهولندية؟»، لم تكُن عايدة قرأت الرواية، فلم تعرف لقمان أو ماريك، وإن وعدتنى بقراءتها، لكنها أخبرتنى بأن جسر بروكلين ليس ذلك الذى نعبر من عليه، إنه هناك يربط بين مانهاتن وبروكلين. تحدثَت ببساطة كأنى أعرف جغرافيا المدينة المتسعة، وكأن الجسر يربط بين بولاق والزمالك. عقدتُ العزم على زيارة الجسر إذا سمح الوقت، لأن المرء لا يأتى إلى الأماكن التى عاشها مع أبطال الروايات التى يحبها كل يوم، لكن الجسر ظلّ بعيدًا عنى حتى عودتى إلى القاهرة، فبقيت محتفظًا بتفاصيله الروائية، فمن يدرى...؟
تتكون نيويورك فى الأساس من خمسة أحياء رئيسية: بروكلين، ومانهاتن، وبرونكس، وكوينز، وجزيرة ستاتن آيلاند، الفندق الذى نتجه إليه هو «سنترال بارك» فى قلب مانهاتن، وهو ذو مكان مميز جدًّا، إذ يبعد عن تايمز سكوير أشهر ميادين نيويورك على الإطلاق بضعة أمتار، وعلى بعد دقائق من سنترال بارك أشهر حدائق المدينة، ولذلك فرغم أنه من فئة الأربعة نجوم فإن غرفه التى يزيد عددها على 900 غالبًا ما يقصدها زوار نيويورك.
فى الطريق إلى الفندق كنت اتأمل عمارات نيويورك الشاهقة وشوارعها المزدحمة بعين مرهقة وخاوية بفعل ساعات السفر الطويلة، والإحساس بأن الرحلة قاربت على الانتهاء، لذه الاندهاش خفتت تقريبًا، وحلّ بدلًا منها شعور ال«ديجافو» بأنك شاهدت ذلك من قبل. ربما لأن معظم الأفلام الأمريكية التى شاهدناها تجرى وقائعها فى شوارع نيويورك، فبدا الأمر عاديًّا، وربما لأن رحلتنا من شرقى أمريكا إلى غربيِّها ثم العودة مرة أخرى، جعلتنا نحس بأننا صرنا من أهل البلاد، وربما لأننا أحببنا البلد فلا داعى لنظرات مودعة، ربما كل هذا معًا، لكن فى اللحظة التى توقعت فيها أن الإثارة والمتعة توقفت، بدأت نيويورك فى الاستعراض.
البرنامج الذى وضعته الخارجية الأمريكية كان محدودًا بحكم أن بقاءنا فى نيويورك لن يزيد على أربعة أيام، من بينها يوم الوصول من سياتل الذى يخلو عادةً من الأنشطة. فى الفندق التقينا باقى زملائنا الصحفيين المئة القادمين من مناطق العالم الأخرى، كنا تفرقنا بعد مغادرة واشنطن، ذهبت المجموعة العربية إلى تشابل هيل وسياتل، بينما كان نصيب الباقين ولايات أخرى مثل كاليفورنيا ولوس أنجلوس. كان الجميع منبهرا وهو يروى وقائع رحلته فى اكتشاف أمريكا وهدم الأساطير التى عاشت لسنوات طويلة، سيجمعنا فى نهاية البرنامج لقاء تكريمى احتفالى، وسيُنتخب من كل مجموعة شخص ليتحدث بلغته الأم عن انطباعاته عن الرحلة.
برنامج اليوم التالى من وصولنا إلى نيويورك، يتضمن زيارة «نيويورك تايمز» أيقونة الصحافة الأمريكية، وهو أمر جعلنا متشوقين إلى الصباح التالى، لكن الليل طويل، وهكذا بدأنا فى اكتشاف الشوارع المحيطة، وصولًا إلى تايمز سكوير الذى للصدفة عُرف باسم «التايمز» نسبة إلى أن المقر السابق ل«نيويورك تايمز» كان فى الميدان، وهو أمر يكشف بوضوح أثر هذه الصحيفة الكبرى فى الثقافة الأمريكية.
فى الطريق إلى تايمز سكوير ونحن نتكتك فعليًّا من البرودة، لم يهدأ «الشارع السابع» حيث نتحرك للحظة واحدة، الشوارع الرئيسية فى نيويورك مسماة بالأرقام، الشارع السابع 7th Avenu شهير لأنه لا يؤدى إلى تايمز سكوير فحسب، ولكنه طريق رئيسى أيضًا إلى برودواوى، شارع الفن والمسرح الأشهر فى العالم، أما شارع رقم خمسة الموازى فيستمدّ شهرته من كونه يضمّ أفخم المحلات وأشهر الماركات، وأغلاها سعرًا طبعًا.
شوارع نيويورك صاخبة لكنها نظيفة، مزدحمة لكن لا أحد فيها يكسر إشارة، تضجّ بوشوش من كل الأشكال والألوان والأجناس، لكنهم جميعًا يتحركون فى سرعة كأن للكل موعدًا واحدًا وعليهم جميعًا اللحاق به حالًا.
الأرصفة ممتلئة بالأكشاك كتلك الموجودة فى مصر، لكن بطابع نيويوركى، وإلى جوارها انتشار لافت لعربات الطعام التى يعلوها بالعربية والإنجليزية عبارة «حلال»، رغم أن الرائحة القادمة منها تنفى هذه الصفة عنها تمامًا! أما الحلال فهو اللحم أو الدجاج المذبوح على الطريقة الإسلامية، وهذه نقطة جوهرية تؤرِّق أهل أمريكا كلهم من المسلمين أو زائريها، أما عربات الطعام فهى تقريبًا محتكَرة بالكامل للمصريين المهاجرين بحثًا عن الدولار وحياة أفضل فى بلاد العمّ سام.
فى شارع رقم 7، ونحن نقف إلى جوار عربة «حلال»، لا صوت يعلو على اللغة العربية، حتى تلك الأغانى الخارجة من أجهزة الراديو كانت مصرية خالصة، يسعد المصريون فى أمريكا بلقاء أهل بلدهم، هم صاروا يتحدثون الإنجليزية المعقولة، ونالوا تصاريحَ من الجهات المختصة فى نيويورك لممارسة هذه المهنة «الحلال»، لكنهم يألفون الصوت المصرى بكل تأكيد. وكان هذا أحد وجوه مدينة نيويورك المتعددة، وأكثرها أهمية، أنها رحبة تَسَعُ الجميع، وأن ثقافتها تقوم بالأساس على احترام كل ثقافات العالم، فلا أحد يسخر من مصطلح «الحلال»، ولا أحد يهزأ بكفاح هؤلاء الجدعان لأنهم «واقفين على العربية على الرصيف».
كنا نريد دعم «المصريين بالخارج» قَطْعًا، لكننا لم نسافر إلى نيويورك لنأكل طعامًا مصريًّا! هكذا أكملنا المسيرة بعد التحيَّة والتمنيات بالتوفيق متجهين إلى تايمز سكوير، وهناك كان الوجه الحقيقى لنيويورك ينتظرنا.
ما مفهومك عن «الدوشة الحلوة»؟!
أغانى صاخبة تخرج من اللا مكان، وصراخ أطفال ومراهقين من فرط انبهارهم وتشوُّقهم وسعادتهم، وأصوات السيارات، والأوتوبيسات الحمراء السياحية ذات الطابقين، والمحلات التى تمتلئ واجهتها بالمنتجات من كل نوع، والمطاعم التى تحمل أسماء كل بلدان الدنيا، ولافتات الإعلان المعلَّقة أعلى ناطحات السحاب، المبانى متألقة بأضواء باهرة لا تنطفئ ليلًا ولا نهارًا، أعمال التطوير فى منتصف الشارع، وحركة العمال بالملابس الصفراء والأوناش دون شعور بالخطر، ومقر وكالة «رويترز» الذى يستحوذ على مبنى شاهق لامع، والسائحون الذى يتوافدون على الميدان أفواجًا فى كل لحظة، والساحة المُدرَجة فى المنتصف التى يتسلقها الجميع بحثًا عن رؤية بانورامية، وعازف الأكورديون الذى يعزف لحنًا حزينًا على الرصيف منتظرًا أن تعطف عليه بدولار أو أكثر.
مرحبا بكم فى تايمز سكوير.
كنا منبهرين. الميدان رغم شهرته العالمية صغير لا كبير، ويكاد يساوى فى مساحته ميدان التحرير، لكن الحياة المتدفقة فيه التى تصل الليل بالنهار فلا تعرف فارق بينهما، تجعله أسطورة حية للمتعة والصخب المحبَّب الذى يغريك بالانضمام إلى أولئك البشر الذين يتحركون فى الميدان بحثًا عن سر توهُّجه.
بعد جولة امتدت لأكثر من ساعتين خضنا فيها مفاوضات شرسة لتخفيض الأسعار مع بائعى الرصيف الذى يبيعون كل شىء مثل زملائهم المصريين محتلِّى شارعَى 26 يوليو وطلعت حرب، اخترنا من بين مئات المطاعم واحدًا يقدم «السوشى» اليابانى، وقد تظاهر مُعظَمُنا برفض دخول البار الذى تتوهج عليه صورة فتاة بملابس مثيرة ومكتوب أسفلها «للرجال فقط»، على اعتبار أنه «عيب وكده»، أما مذاق السوشى الغرائبى والدولارات التى دفعناها فيه برأس مطأطأ ومتحسر، فجعلنا نبحث عن المصريين الجدعان فى أرصفة الشارع لنعتذر إليهم وإلى أكلهم الحلال عن سوء أدبنا معهم!
مع منتصف الليل قهرَنا برد نيويورك. ولم يعُد باستطاعتنا رغم البطاطين التى نرتديها تحمُّل مزيدًا من الجولات فى الشارع، عدنا متقهقرين إلى الفندق، وقد بدأت درجة الحرارة فى توديع الصفر، لتسجل ما تحته من أرقام، لننام على أمل أن تكافئنا نيويورك فى اليوم التالى بدفء يستحقّه هؤلاء القادمون من بلدان حارة مثلنا.
فى الصباح الباكر بدأت الشمس تتسرسب تدريجيًّا من بين السحب، فى بداية جولتنا الحرة فى نيويورك بصحبة مرشدة لطيفة الحضور، أخبرتنا أننا لن نذهب إلى تمثال الحرية، لكننا سنذهب إلى أقرب منطقة يمكن أن نرى منها التمثال. من يزُر نيويورك ولا يزُر تمثال الحرية فهو كمن يأتى إلى القاهرة ولا يرى الأهرامات من قُرب، لكن الوقت المتبقى قليل، والذهاب إلى التمثال يتطلب رحلة بحرية تستغرق نحو ساعتين ذهابًا وإيابًا، من يُرِد أن يخوض المغامرة فعليه أن يفعلها منفردًا لا ضمن هذه المجموعة.
عن نفسى لم أكن متحمسًا كثيرًا لزيارة التمثال، كنت أريد أن أعرف مزيدًا عن نيويورك الأخرى غير تلك التى نراها دوما على الشاشات، وهكذا التقطنا الصور التى يظهر فيها تمثال الحرية فى الخلفية بعيدًا، ثم انطلقنا لزيارة منطقة هى الأكثر شهرة.. المنطقة صفر أو ground zero، إى نعم، المنطقة التى وقع فيها «إعصار» 11 سبتمبر عام 2011، فتَغَيَّر العالم كله.
بمجرد دخول الأوتوبيس إلى المنطقة التى كان يعلوها برجا التجارة العالميان اللذان انهارا تمامًا فى 11 سبتمبر، تسرى فى جسد المرء قشعريرة غامضة. ورغم أن هناك حركة لا تهدأ لاستكمال بناء برجين جديدين بدلًا من البرجين اللذين سقطا، فإنه بمجرد النزول إلى المنطقة، ثمة صمت قاتل يلف المكان كله. صمت خاشع يهزّ الزائرين هزًّا.
أقف فى قلب الشارع المواجه للبرجين اللذين أصبحا أثرًا بعد عين، وأتذكر مشهد الطائرة وهى تخترق البرج الأول، وأرتعش. كيف حدث هذا فعلًا؟! البرجان فى قلب نيويورك وانهيارهما المروع بعد الانفجار يهزّ المدينة هزًّا! هنا يشعر المرء بأن أرواحًا هائمةً لا تزال تتحرك فى المكان. أرواح المقتولين والقَتَلَة. يا الله! كم من الدماء سال هنا، ثم جلب معه لاحقًا انهار دم أخرى فى بلدان شتى!
بدأت أمريكا فى بناء برج جديد ليحلّ محل البرجين اللذين سقطا فى العام التالى مباشرة 2002، وانتهت من بناء البرج الجديد الذى أصبح أطول مبنى فى نيويورك فى ديسمبر عام 2013، وعندما كنا هناك فى نوفمبر من العام نفسه، كان البرج الجديد يكاد يكون مكتملًا.
الآن ندخل الكنيسة المواجهة للبرجين اللذين راحا. كنيسة «باول» هى أقدم مبنى فى نيويورك، تأسست عام 1766، ولم تتأثر بالتفجير مُطلَقًا، هناك تفسيرات ما ورائية طبعًا، هناك من يتحدث عن رؤية ملائكة حمتها وقت الحادثة المروعة، لكن الحقيقة فى الموضوع أن الكنيسة لم يقع منها طوبة واحدة، فاكتسبَت زخْمًا فوق الزَّخْم الذى كانت تتصف به بالأساس، الحديقة المقابلة للكنيسة تضمّ شواهد قبور عدة، هى لأولئك الذين رحلوا خلال الحرب الأهلية، أما فى داخل الكنيسة فالأمر يختلف.
بهو الكنيسة المتسع من الداخل يضمّ فى أحد أركانه تذكارات من الذين قضوا فى 11 سبتمبر، صورًا، ميداليات، مفاتيح، سلاسل ذهبية وفضية، لعب أطفال، نياشين وأعلامًا أمريكية صغيرة الحجم، وفى ركن آخَر، بدلة لواحد من رجال المطافئ يظهر عليها بوضوح آثار الحريق، مات الرجل وهو يؤدِّى عمله وبقيت البدلة خير شاهد على ذلك. حزن واضح يلف المكان بالداخل، من كان هنا فى ذلك اليوم العصيب، كان شاهدًا على رؤية أكثر من 3600 شخص يموتون فى لحظة واحدة تقريبًا.
تقول لنا مرشدتنا «قد لا يعرف البعض أن مبنى التجارة العالمى كان يضم مسجدًا، وقد انهار على مَن كانوا يصلُّون فيه بعد اصطدام الطائرة به»، الموضوع لا يحتاج إلى معلومات جديدة. القتل واحد. يسعى صديقنا جُو لإخراجنا من الأجواء، ليروى لنا أنه كان يعمل فى مبنى التجارة العالمى، وأنه عادة ما كان يأتى إلى مكتبه هنا كل ثلاثاء، وفى يوم الثلاثاء الذى وقعت فيه أحداث 11 سبتمبر تَأخَّر على العمل لأسباب خارجة عن إرادته، ولم يذهب، ليستطرد بمرح لبنانى لم يغادره «تَصوَّروا لو كنت ذهبت إلى العمل فى موعدى كالمعتاد.. لما كنت معكم الآن».
تركنا المنطقة صفر، بما فيها من ذكريات موجعة، وفى طريق العودة إلى الفندق توالت المعالم التى قد لا تخطر على البال، هذا المكان على المحيط اسمه «تذكار تايتانيك»، لأن السفينة الأسطورية الغارقة تحركت فى أولى وآخر رحلاتها من هنا، أمام هذا المكان على نهر هدستون، فله أهمية تاريخية لأنه استقبل أول شاحنة شاى قادمة للولايات المتحدة بعد الاستقلال، هذه حاملة طائرات اسمها «إنترابيد»، خدمت فى الحرب العالمية الثانية، ووُضعت هنا فى هذه المنطقة ويعلوها نموذج من صواريخ «توماهوك» موجَّهًا مباشرةً إلى القنصلية الصينية، أقول للمرشدة «صدفة هذه طبعًا»، فتجيب بابتسامة ماكرة، ولا تعلِّق، لكننا قطعًا بدأنا نفهم كيف يصنع الأمريكان تاريخهم وكيف يستخدمونه لتوجيه إشارات إلى مَن يريدون.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.