«كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة»، مقولة ل»النفري» من كتابه «المواقف والمخاطبات» ربما تصبح هى الأنسب فى حال جلوس البنى آدم منا أمام آلته الكاتبة ليكتب كلمات عمن هى أكبر من كل الكلمات، أمه. يعلم البنى آدم منا فى موقف مثل هذا أن ما يكتبه سوف يأتى سطحيا وطفوليا –وربما ركيكا- مهما اجتهد فى الصياغة وفى التعبير وفى محاولات إدهاش نفسه وقارئه باختيار العبارات المناسبة والملائمة لمثل تلك الكتابة. وهو ما ينبغى على البنى آدم منا أن يلتمس لنفسه فيه العذر، حيث كيف يمكن للكتابة –أى كتابة- إختزال الأمومة بداخلها؟ كيف يمكن ترجمة تلك المعانى والمشاعر الإلهية التى منحتنا إياها أمهاتنا إلى لغتنا الأرضية القاصرة؟ كيف يمكننا ترجمة لغة السماء إلى لغة الأرض؟ كيف يمكننى ترجمة تلك الإستضافة الربانية غير المفهومة لمدة تسعة أشهر كاملة كنت مستكينا تماما فيهم، أتكوَّن وأتشكَّل فى هدوء من الوضع متكعورا على نفسى، غير منشغل البال بأى شيء (بالى نفسه لم يكن قد تَشَكَّل بعد)، لا أحمل هم أكل أو شُرب أو فلوس أو مستقبل أو ماضى أو حتى حاضر، تسعة أشهر كاملة ظللت خلالهم قابعا فى بطن أمى فى منطقة زمنية سرمدية غير محسوبة من عمرى، على الرغم من أنها هى التى شهدت تكوين أساسيات كل عمرى، منطقة زمنية لا تنتمى إلى الماضى أو الحاضر أو المستقبل، منطقة سحرية لا يشترك فيها تاريخى سوى مع كائن واحد فقط على ظهر ذلك الكوكب الموحش، أمى الجميلة. كيف يمكننى ترجمة تلك الإقامة الربانية السحرية إلى كلمات؟ بعد مجيئى إلى تلك الحياة وتشغيل العَدَّاد الزمنى الخاص بعمرى، فى فترة لم يكن فيها إدراكى للأشياء أو للحياة قد تشكَّل بعد، إضطلعت أمى بمهمة أخرى من تلك المهام التى كلفتها بها السماء وكلفت هى نفسها بها، مهمة ملاكى الحارس المسؤول عنى وعن سلامتى الجسدية والنفسية والروحية طوال فترة طفولتى النَزقة. الوضع طوال طفولتى كان كالتالى، أنا لست أكثر من مجرد طفل لاهى وعابث غير منَشغل البال سوى بشيئين رئيسيين، يا ترى بابا حييجى إمتى من الشغل ومعاه ميكى جيب بتاع الأسبوع دا؟ ويا ترى ماما عاملة إيه ع الغدا النهاردة؟ بينما أمى تطوقنى بروحها متحملة فى سبيل ذلك سخافاتى وفترات نزقى ومراهقتى وافكارى المشوشة عن الكون. أى كتابة يمكنها التعبير عن شخص يدفع من عمره وأيامه ثمنا بخسا بكامل إرادته الحرة الكاملة فى سبيل الحفاظ على سلامة وأمان شخص آخر لن يدرك مدى ما فعله هذا الشخص من أجله سوى بعد أن يكون قد عبر إلى شاطيء الإدراك الحقيقى للحياه وللأشياء، أى كتابة يمكنها التعبير عن كل ذلك الإيثار بدون مقابل؟ أمهاتنا وأبَّهَاتنا همه أكتر كائنات على ضَهر الكوكب بيحبونا، قاعدة رئيسية فى الحياة كان ينبغى عليّ أن أعيش وحدى لمدة 15 سنة حتى أتيقن من مدى صدقها، وربما كان هذا هو السبب فى أنه كلما أبحرت سفينة روحى فى بحر الحزن الذى هو ماعدش له جلال ياجدع، أجد الموبايل بيرن وعلى الشاشة كلمة Home بينما صوت أمى يسألنى بلهفة، «خالد.. إنت كويس»؟ «إن من لم ير أُما أشرف طفلها على الموت فى حادثة أخذته بغتة ثم نهض سليما معافى، أو ضلَّ عنها مدة حتى يئست منه ثم اهتدت إليه لا يكون قد رأى شيئا من سعادة الإنسانية العالية النادرة التى لا تكون إلا فى الأمهات خاصة، ولا يشهدها الناس إلا فى ساعةٍ حَرجَةٍ تلمس فيها يدُ الله قلب الأم». مقولة للعم «مصطفى صادق الرافعي» من كتابه «السحاب الأحمر». أمى الطيبة، كل سنة وانتى جميلة...