أعترف بأننى كنتُ كغيرى أطالب الحكومات المصرية المتعاقبة بأن تسير خلف النخبة، تستهدى بنورها، وتغترف من نبع حكمتها وتنفذ أفكارها، وتتبنى نظرياتها، طبعًا لم تستجب حكومة واحدة لمثل تلك المناشدات، وبات من العلم العام أن هناك حالة من العداء الصليبى بين الحكومات والنخبة، فإذا قالت النخبة يمينًا توجهت الحكومات يسارًا والعكس بالعكس، وقد كان هذا الموقف الحكومى يدعو لأشد أنواع الحزن، بل لأشد أنواع الإحباط واليأس، ولكن شاء ربك أن يكشف الغطاء عن حكمة الحكومات فى تجاهل رؤى النخبة، فالحادث يا صديقى- وهو لا يخفى عليك- أن الحكومات المصرية أصبحت أعقل من النخبة المصرية، بل وأشجع، بل (وهذا عجيب غريب) أشد حرصًا على تقاليد الديمقراطية، ولكى يكون كلامى مستندًا إلى دليل ملموس، انظر يا صديقى إلى موقف الحكومة المصرية من قضية بالغة الأهمية والخطورة مثل قضية سد النهضة الإثيوبى، الحكومة تبذل ما فى وسعها لكى تصل إلى اتفاق مع إثيوبيا يحقق مصلحة الجميع، بينما النخبة التى من حقها انتقاد خطوات الحكومة- ومن الواجب عليها تصويب المنهج الحكومى- تتخذ موقفا مضحكا، فهى إما تدعو إلى ضربة عسكرية تهدم ما تم تشييده من السد، وكأن الضربات العسكرية فى سهولة الذهاب فى رحلة إلى القناطر الخيرية! وإما تروج لمشروع نهر الكونغو الذى يصفه خبراء مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة بأنه ضرب من ضروب الأوهام، أو كما قال أحدهم: «هذا المشروع هو نوع فاخر من أنواع الفنكوش». ثم تأمل معى موقف الحكومة والنخبة من المحامى خالد على الذى أعلن أنه لن يشارك فى السباق الرئاسى، الحكومة تصرفت بطريقة عاقلة وقالت له: «أنت حر» وانتهى الأمر. أما النخبة فقد صنعت من هذا الانسحاب الذى هو قرار شخصى لا يفيد ولا يضر سوى صاحبه، قصة طويلة عريضة عميقة كأنها قصة حصار طروادة، وخذ هذا الخبر الذى تصدر البوابات الإلكترونية لمعظم الصحف المصرية: «حصلت حركة (صحفيون ضد الإخوان) على توقيع 1000 صحفى من أعضاء نقابة الصحفيين، تمهيدًا لإصدار قرار بمنع خالد على من دخول مقر النقابة وعقد أى مؤتمرات بها، احتجاجًا على الإساءة التى وجهها إلى المصريين خلال مؤتمر انسحابه من سباق انتخابات الرئاسة». وصرح الصحفى محمود نفادى مؤسس الحركة، بأنه سيقدم الطلب إلى مجلس النقابة لإصدار هذا القرار لرد الاعتبار لشعب مصر ضد تجاوز خالد على، ومطالبة كل الصحف بعدم نشر صوره أو أى أخبار عنه، لأنه لا يستحق أن نمنحه هذا الشرف على حساب سمعة مصر، وفى حالة تجاهل مجلس النقابة سيتم تصعيد الأمر للجمعية العمومية. هل رأيت كرة الثلج وهى تكبر وتتعاظم حتى تصبح جبل نار لا ثلجًا يلتهم كل مخالف؟ سنفترض أن خالد على قد تفوه فى مؤتمره بما يسىء إلى مصر (ما أسخف وأكذب هذه الجملة!) هل يتم الرد عليه من خلال بيانات الأحزاب والقوى السياسية وتعليقات النخبة، أم يتم قتله والتشهير به واتهامه بكل نقيصة؟ الحكومة التى هى الحكومة تركته يدعو إلى مؤتمره ويحشد له ويقول ما يريد، ثم تركته يسعى فى الأرض، كأن شيئا لم يكن، هذا التصرف العاقل من الحكومة تقابله عصبية وتشنج من النخبة التى بتنا لا نعرف ماذا تريد على وجه القطع واليقين؟ هل تريد انتخابات ديمقراطية تنافسية شفافة؟ أم تريد مبايعة تنتمى إلى ميراث العصور الوسطى؟ هذا النوع من النخبة الذى يتصدر المشهد الإعلامى والسياسى لا يشعر بأدنى حرج، وهو يخلط كل الأوراق باحترافية لا يتمتع بها الشيطان الرجيم نفسه، لا يمكن، والحال كما ترى، أن تقوم لدولة سيادة الديمقراطية قائمةٌ، لأن الذين يجب أن يكونوا فى طليعة المدافعين عن الديمقراطية هم أول من يصوب رصاصه عليها عندما لا تتوافق القواعد والممارسات والتقاليد الديمقراطية مع رأيه هو الشخصى. إننا إذا كنا نخشى ممارسات هذا الفصيل أو ذاك على ثورتنا التى لا تزال فى المهد فإن هذا النوع من النخبة المصرية هو الأولى بأن نخشاه.