الضجيج الذى تشهده مصر الآن بمناسبة موسم انتخابات مجلس الشعب يعيد إلى الاذهان الجدل الذى ثار فى بريطانيا خلال أشهر الصيف حول جدوى العملية الانتخابية وتطوراتها. لست فى وارد المقارنة بين الانتخابات عندنا وعندهم أو حتى وضعها على قدم المساواة فى البلدين، حيث أعتبر ذلك من ضروب عدم اللياقة والتسطيح المخل للأسباب التى لا أشك فى أنك تعرفها، خصوصا اننى أتحدث عن الحوار الذى جرى هناك، وليس عن الممارسة التى جرت على أرض الواقع. كان السؤال المحورى الذى جرت من حوله المناقشات فى بريطانيا كالتالى: هل مازالت الانتخابات أفضل وسيلة لتمثيل المجتمع، وإلا تهددها التطورات الحديثة فى إدارة العملية الانتخابية التى تكاد تفقد ذلك التمثيل قيمته؟.. مؤيدو الانتخابات قالوا انها تظل واحدة من أهم منجزات العصور الحديثة فى الحكم والسياسة، باعتبار أنها الوسيلة الأفضل لتمكين الناس من حكم أنفسهم بأنفسهم. أضافوا فى هذا الصدد ان الاختيار الذى يتم من خلال التصويت الحر أراح شعوب الديمقراطيات المتقدمة وجنبها الاحتكام إلى السلاح فى سبيل الوصول إلى السلطة والحفاظ عليها. المتشككون حذروا من ان تطورات عصر العولمة جردت الانتخابات من طابعها الإنسانى، ذلك انها فى صورتها التقليدية اعتمدت على المبادرات الإنسانية، وعلى مساعى الأفراد والجماعات السياسية والأحزاب المنظمة، لترتيب الاتصالات المباشرة والشخصية بين المرشح والناخب، واختراق الحواجز والعوازل الاجتماعية التى تفصل بين الاثنين. هذه الصورة بصدد التغيير الآن ذلك ان ثقافة وتقنيات العولمة أدت إلى تحويل العملية الانتخابية إلى صناعة قائمة بذاتها، خالية من اللمسات الإنسانية ولا علاقة لها بالمنافسات السياسية. إذ فى حين أن المرشحين يقدمون انفسهم إلى الناخبين فى الصورة التقليدية كممثلين عنهم وعن مصالحهم، ويجتهدون فى الالتقاء بالناخبين فى أماكن تجمعاتهم، فإن ثورة العولمة تكفلت بتحويل تحويل الصوت الانتخابى إلى سلعة، بحيث صار مثل البضائع المعلبة التى يفقد صاحبها الأصلى علاقته بها وتأثيره فى مصيرها. تجلى ذلك فى دخول الشركات والمؤسسات التجارية ذلك المجال، أما كيف حدث ذلك، فإليك الحكاية. فقد ظهرت فى أوروبا والولايات المتحدة شركات جديدة تخصصت فى صناعة الانتخابات بمعنى ترتيب أوضاعها وهندسة الحملات الانتخابية. وتلك الشركات حملت أسماء أصبح لها «دور البارز فى مواسم الانتخابات مثل: «ساتشى آندساتشى» جيوفوتر كامبين كونيكشن كامبين أوفيس دوت كوم وغيرها. وهذه الشركات تعرض خدماتها كالتالى: تقدم للمرشحين بيانات كاملة تتضمن كل ما يهمه من بيانات إحصائية، وبرامج التمويل وجمع التبرعات، وكيفية تنظيم الحملات الإعلامية فى الصحف ووسائل البث المرئى والمسموع. كما تقدم لهم تفاصيل حملات «شيطنة» المنافسين وتشويه صورتهم فى أعين الناخبين. وهذه تركز على نقاط ضعفهم وسجلات حياتهم، وغير ذلك من أسلحة الحروب الانتخابية. وفى هذه الحالة لا يرجع نجاح المرشحين إلى نفوذهم السياسى وكفاءة برامجهم، وإنما يصبح ذلك النجاح مرهونا بحجم الأموال التى ينفقونها فى تلك الحملات. من ثم فإن الأوفر حظا فى النجاح هو الأقدر على الانفاق على تلك الحملات. يرى الناقدون والمتشككون ان الدور المتنامى لتلك الشركات من شأنه ان يحول العملية الانتخابية إلى تجارة، يكسب فيها الأوفر حظا من المال. ليس ذلك فحسب وانما يثير التطور الحاصل شكوكا قوية حول مستقبل الأحزاب والجماعات السياسية. لانه يفتح الباب لحلول تلك الشركات محل الأحزاب. لأن التقنية الانتخابية التى توفرها الشركات يمكن ان تتفوق على البرامج السياسية للأحزاب. ومن ثم تغدو تلك التقنية التى تتوفر لمن يدفع مالا أكثر. أقدر على كسب ثقة الناخبين وحصد أصواتهم. وفى هذه الحالة فإن الانتخابات التى يفترض أن تجرى على قاعدة المنافسة فى البرامج السياسية، ستتحول إلى تجارة تتنافس فيها شركات تسويق المرشحين. لا يقلقنا هذا التطور، لان الانتخابات إذا كانت خاضعة لعوامل السوق وثقافته عندهم، فإنها مؤممة عندنا، حيث تقوم وزارة الداخلية بكل ما يلزم لطبخ العملية الانتخابية، دونما حاجة لا إلى برامج الأحزاب أو دعايات المرشحين أو منافسات شركات تسويقهم بقلم فهمى هويدى : الشروق.