صلاح الرشيدي عيد خليل من المفارقات الغريبة والمهازل العجيبة والسخريات المؤلمة ومن المضحكات المبكيات، أنني كنت أحاكم في نفس اليوم وفي ذات القاعة وأمام نفس الدائرة التي يحاكم أمامها سائق المقاولون العرب «محمود طه سويلم.. سفاح مذبحة أبو النمرس المتهم بقتل وإصابة 12عاملا بسيطا.. أنا وهو «زمايل» أمام محكمة الجنايات.. شعرت أن السفاح ينظر إلي من داخل القفص بقرف واستهزاء وسخرية، ولسان حاله يقول لي: يامغفل.. أنت جاي هنا محكمة الجنايات ومهدد بالسجن علشان مقالتين تلاتة، وأنا متهم بارتكاب مذبحة وقتل ستة وإصابة ستة آخرين، ثم شعرت به ينتقل من حالة القرف إلي حالة التهديد وهو يهمس: والله لو كان نفس السلاح في يدي الآن لأفرغته في صدرك لأنك أهبل وساذج، فأنا متهم في مذبحة أسلت فيها دما ورملت عائلات وكسرت قلوبا وحطمت نفوسا وأنت متهم بكتابة مقالة أسلت فيها حبرا علي الورق. هذا هو ما جاء في خيالي وأنا أتبادل النظرات مع المتهم بارتكاب المذبحة، قضيته غريبة وقضيتي أغرب، فهو متهم بقتل مواطنين وأنا متهم بالدفاع عن المواطنين .. هو متهم بهدم بيوت ضحايا وأنا متهم بالدفع عن بيوت الناس .. هو استخدم سلاحا للقتل وأنا استخدمت قلما لحماية الناس من الموت البطيء بسبب السياسات الضريبية القاتلة. وبعدما قررت المحكمة إيداع المتهم بارتكاب المذبحة مستشفي الأمراض العقلية لمدة «45»يوما للتأكد من مسئوليته عن أفعاله، قال لي أحد المواطنين مساء نفس يوم الجلسة: نحن أيضا نريد إدخالنا مستشفي الأمراض العقلية لأن عقولنا ترفض استيعاب وفهم قضيتك.. لماذا وكيف يحاكمونك لأنك تدعو إلي إلغاء الضريبة العقارية أو إعادة تصحيحها وهي ضريبة هاجمها المجتمع كله وبضراوة «انتهي كلامه» في كل الأحوال نحن نثق في قضاء مصر العادل ونترك مصيرنا لله سبحانه وتعالي أولا وللمحكمة الموقرة برئاسة المستشار إميل حبشي وعضوية المستشارين محمود طاهر شتا ومحمود السبروت. وفي كل الأحوال أيضا وإلي أن يصدر الحكم في قضيتي سواء بإدانتي أو بتبرئتي فقد شعرت منذ اللحظة الأولي لدخولي المحكمة أنني حصلت علي حكم البراءة متمثلا في حب الناس الذين تكبدوا مشقة وعناء الوصول إلي المحكمة ولم يهتموا بالمخاوف المتعلقة بالإجراءات الأمنية .. كان كل همهم أن يكونوا بجانبي.. فوجئت بالأيتام الذين ساندتهم في مشاكلهم من قبل قد جاءوا إلي المحكمة من طنطا والاسكندرية وهم يرفعون لافتات: لا لمحاكمة نصير الأيتام.. وفوجئت بأمهات كبار السن جئن من أسيوط وسوهاج والفيوم والشرقية لمساندتي لأنهن يعتبرن أن القضية قضيتهن، وأنني كنت أدافع عن الناس.. وفوجئت كذلك بشباب صغير السن جاءوا من مختلف محافظات مصر صيحاتهم الغاضبة وهتافاتهم الصادقة مازالت ترن في أذني، لن أنسي أبدا وجوه كل الذين جاءوا إلي المحكمة لمساندتي حتي لو رأيتهم بعد سنوات إذا شاء الله للعمر أن يمتد.. هكذا الإنسان في المحن يتذكر كل الذين ساندوه لقد انطبعت في ذهني صورة الوجوه والعيون القلقة داخل المحكمة ولن أنساها ما حييت.. ولو كان الأمر بيدي لذهبت إلي بيوت كل الذين جاءوا إلي المحكمة من تلقاء أنفسهم ودون دعوة من أحد سوي من ضمائرهم وشكرتهم جميعا علي وقفتهم الصادقة والمخلصة.. وعندما حاول الأمن منع أعداد غفيرة من حضور المحاكمة بحجة أن القاعة امتلأت عن آخرها أمسك الممنوعون من الدخول بيدي وهم يصرخون: مش هانسيبه.. من هانسيبه.. رافضين دخولي إلي قاعة المحاكمة بدونهم وصممت أنا بدوري علي عدم الدخول بدونهم.. مشاعر صادقة ومخلصة كانت بالنسبة لي حكم براءة وشهادة من الناس بأن هذه القضية قضيتهم قبل أن تكون قضيتي.. شعرت أن الناس أعطتني تفويضا بالدفاع عنهم في قضية الضرائب العقارية التي تهدد بيوتهم.. وبمجرد أن سألني رئيس المحكمة المستشار إميل حبشي عن الاتهام الموجه لي بأنني حرضت المواطنين علي عدم تقديم الاقرار الضريبي وعدم دفع الضريبة العقارية قلت علي الفور: لقد طالبت ومازلت أطالب بإسقاط الضريبة العقارية الظالمة والمجحفة علي أن يكون ذلك باستخدام الوسائل القانونية والدستورية، لأن لدي قناعات بأن هذه الضريبة تهدد بيوت الناس، وحرية الصحافة تكفل لي هذه الحقوق المتعلقة بالدفاع عن المواطنين في مواجهة ما يتعرضون له من ظلم، وأنني لم أحرض علي عدم تنفيذ القوانين حتي لو اتخذت حملتنا شعارات من نوع: لاتقدموا الإقرار فقد كان ومازال هدفنا هو إسقاط هذه الضريبة بالقانون والدستور وأضفت: في الوقت الذي استجاب فيه رئيس الجمهورية لحملتنا وقال بالحرف الواحد أِثناء وجوده في محافظة كفر الشيخ: إن قانون الضريبة العقارية لم يحسم بعد وأنه لابد أن يراعي الأبعاد الاجتماعية، قام وزير المالية الدكتور يوسف بطرس غالي بخطوة مناقضة وعدائية تماما لحرية الصحافة وقدم ضدنا بلاغاً واستناداً إلي مادة لا علاقة لها بقضايا النشر وهي المادة 177 من قانون العقوبات والتي تنص علي أنه يعاقب بالحبس مدة أقصاها خمس سنوات كل من حرض المواطنين علي عدم الانقياد للقوانين والحبس وجوبي في هذه المادة، وقد دار نقاش طريف يدل علي غرابة هذه المادة التي أحاكم بها والتي تبدو وكأنها سقطت علينا من كوكب آخر يستهدفني أنا شخصياً دون سائر البشر، فقد ذكر أعضاء هيئة الدفاع عني وهم يتحدثون داخل المحكمة أن هذه المادة تم تطبيقها مرة واحدة من قبل وأن هذه هي المرة الثانية داخل المحاكم المصرية، فرد رئيس المحكمة المستشار اميل حبشي قائلا: لقد تم تطبيق هذه المادة مرتين من قبل وهذه هي المرة الثالثة. انتهي تعقيب رئيس المحكمة وفي كل الأحوال فإن هذا النقاش يؤكد أننا أمام قضية استثنائية ومادة قانونية كانت مخيفة ومختفية ونائمة استيقظت خصيصا من أجلي وفي قضية تتعلق بحرية الصحافة. قبل جلسة محاكمتي قابلت في القاعة الأستاذ فريد الديب المحامي الشهير الذي جاء للدفاع عن أحد المتهمين في قضية رشوة تنظرها نفس الدائرة.. نصحني قائلا: عاوز تكسب أي قضية أبعدها من المظاهرات والهتافات قلت له: هذه ليست جريمة قتل مثل قضية هشام طلعت وسوزان تميم أو قضية هبة ونادين.. هذه قضية حريات تتعلق بحرية الصحافة ثم أنها قضية شعبية تتعلق بالضرائب العقارية التي تهدد بيوت المواطنين، فاستمر الاستاذ فريد الديب في النصيحة قائلا: امشي جنب الحيطة أحسن علشان القضية تمر في الأمان.. قلت: هذه قضية الناس الذين جاءوا إلي المحكمة من تلقاء أنفسهم وبالتالي سأسير بينهم ولن أمشي جنب الحيطة. السؤال الآن: ما الذي سنفعله في الجلسات القادمة؟ الإجابة: هذه دعوة منا لكل المعترضين علي قانون الضريبة العقارية من المتخصصين والقانونيين والسياسيين وأعضاء مجلس الشعب وقيادات الأحزاب والمحامين والصحفيين ومنظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان والمواطنين العاديين: هذه هي فرصتنا لإسقاط الضريبة العقارية بالوسائل القانونية والدستورية.. فعلينا وعليكم تجميع كل القضايا والمستندات التي تتيح لنا استغلال محاكمتي أنا وزميلتي سمر الضوي لتحويل قضية الضرائب العقارية إلي المحكمة الدستورية لتقول لنا: هل الضريبة دستورية أم أنها غير دستورية؟! لم تعد القضية هي دخولي السجن من عدمه.. ليس مهما ذلك.. الأهم هو إسقاط الضريبة العقارية حتي لاتتحول بيوت المواطنين إلي سجون. [email protected]