وبينما لا تبدو المعارضة السياسية والمسلحة أفضل حالا من جماعة الأسد، فجماعات المعارضة السياسية تتناسل أسماؤها، ويخرجون علينا كل يوم بائتلاف أو مجلس جديد، وجماعات المعارضة المسلحة تتكاثر كالفطريات، وكل يوم ينبئونك عن ميلاد جبهة سلاح جديدة، وبأسماء تنتحل صفات «الإسلام» أو «التحرير» أو «الثورة»، ولا أحد فيهم يمثل أحدا، بل هو المزاد المفتوح للقتل وسفح الدم السورى، والمسالك المطروقة إلى أجهزة المخابرات وحقائب الأموال، والرقص على جثة حلم كان اسمه يوما : ثورة سوريا السلمية من أجل الحرية . نعم، من حق السوريين أن يثوروا، وقد بدأوا ثورتهم بطريقة سلمية تماما، استلهموا ثورتهم مما جرى فى عدد من أقطار أمتهم، ومن جرأة أطفال «درعا»، الذين بدأوا الثورة برفع شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، وكان جزاؤهم الوحشى نزع الأظافر، لكن الأظافر المنزوعة أنبتت أملا فى قلب سوريا، وخرجت مظاهرات الحرية بعشرات الألوف، تتحدى قهر وطغيان جماعة بشار الأسد، وتطلب الحرية بالصدور العارية، وتواصلت السلمية المبشرة بالنصر لتسعة شهور، وكادت تدق أبواب المدن الكبرى، بدأت الثورة السلمية من الريف ومن الأطراف، وكادت بصمودها المتألق أن تصل إلى دمشق وحلب، وحيث يتركز قرابة نصف سكان سوريا، وحيث قوتها الحضرية القادرة على التغيير، ولم يجد بشار الأسد من خيار غير قلب المائدة، وإشعالها حريقا طائفيا مستعرا، وجد الأسد ضالته فى الهروب إلى الهاوية، وتفجير الحرب الأهلية، وكانت النتيجة مروعة، فقد انحسرت مشاهد التظاهر العفية، وحلت مشاهد القتل التى بدأتها جماعة الحكم الديكتاتورى الطائفى الناهب، واستجابت لها شرائح من الثوار الحقيقيين، ثم سرعان ما تعقدت الصورة، ودخلت على الخط جماعات لا علاقة لها بقضية الثورة من أصله، وعلى طريقة جماعات القاعدة وأخواتها، وهى جماعات قتل احترافى تماما كجماعة النظام السورى، وعقيدتها: القتل من أجل القتل، والتدمير من أجل التدمير، ولم تعد تردنا من سوريا المكلومة غير صور القتل والخراب والتشريد، وكلا الطرفين يقول لك إنه حرر قرية كذا أو مدينة كذا، وتنظر إلى «البقعة المحررة» فى المشاهد المنقولة، فلا تجد بشرا ولا شبه بشر، فقط هو الحجر المتهدم فوق الحجر المطمور، وعلى حواف الصور تلال وأشجار تدمع أوراقها الذابلة، ويضيع صوت بكائها مع صفير الريح، أو تضيع ملامحها من وراء طبقات الثلج فى فصول البرد، وكأن الحرب تنتهى، والنصر يتحقق، ويصير ناجزا كاملا، بتحرير القرى والمدن من سكانها، فلا تكاد تجد غير الأشباح، إما من جنود وضباط الجيش الرسمى، أو من المجاهدين الأشاوس ذوى اللحى الكثيفة والأجساد المكتنزة، وكأن الهدف هو تحرير سوريا من أهلها، وقذفهم إلى حيث ألقت، إما فى داخل سوريا، إلى مدن وقرى لم تصلها بعد لعنة الحرب، أو إلى مخيمات البؤس فى بلدان الجوار التركى والأردنى واللبنانى، فلا شرف ولا دين ولا ضمير فى القصة كلها، ولا حتى أخلاق للحرب، وهذه طبائع الحروب الأهلية المدفوعة بدواعى الانتقام وحدها، والتى تدفن الثورات، ثم تنتقل إلى دفن الناس، والحروب الأهلية فى العادة تدور بين جهتين، لكنها أى الحرب الأهلية تدور فى سوريا بين ألف جهة وجهة، ثم أنها لا تقتصر على أهل سوريا، فالحدود السائبة سمحت بدخول مقاتلين من عشرات الجنسيات، يكونون مئات الجماعات، التى ترتدى غالبا «كوفية الإسلام»، ولا تحدثك عن الحرية والديمقراطية والتعددية، ولا تقيم لها وزنا من أصله، بل تعتبرها كفرا بواحا، وتحدثك زورا عن حكم الإسلام، وكأن الإسلام أستغفر الله وأستعيذه هو شريعة القتل، فجماعة بشار تعتنق شريعة القتل العلمانى، والجماعات المناوئة الأقوى على الأرض، تعتنق هى الأخرى شريعة القتل، وتنسبها زورا إلى الإسلام، وعلى طريقة «جبهة النصرة»، أو جماعة «داعش» التى تؤكد شريعتها الدموية بوضوح قطعى، وتقول على لسان المتحدثين باسمها ما يلى: «اعلموا أن لنا جيوشا فى العراق وجيشا فى الشام من الأسود الجياع، شرابهم الدماء وأنيسهم الأشلاء»، هكذا ببساطة، وحاول من فضلك أن تتبين الفارق بين رجل «داعش» ودراكولا مصاص الدماء، لا تحاول كثيرا، فما من فارق، ربما سوى أن داعش واسمها بالكامل هو الدولة الإسلامية فى العراق والشام ترتدى كوفية الإسلام، وتنسب نفسها زورا إلى شريعة الإسلام، بينما هى تهين الإسلام وتحقره، وربما كانت «داعش» أكثر صراحة فى وحشيتها من جماعات أخرى تحاربها، وتتخذ لنفسها أسماء إسلامية مخادعة، وليست أقل فى وحشيتها من وحشية بشار الأسد وزمرته، وأمثال هذه الجماعات هى التى تتقاسم السيطرة على الأرض السورية الآن مع جماعة بشار، ولا يكاد يوجد للائتلاف السورى المعارض نفوذ ينافس على الأرض، ولا لسابقه المسمى بالمجلس الوطنى، ولا تكاد تلحظ أصواتا تثق بسعيها الجدى إلى تحرير سوريا من الديكتاتورية، وإحلال نظام وطنى ديمقراطى، اللهم إلا فيما ندر وعصم ربك، وعلى طريقة «المنبر الديمقراطى» لميشيل كيلو المشارك فى الائتلاف السورى، أو على طريقة معارضة الداخل السلمية ممثلة فى «هيئة التنسيق الوطنية» لقوى التغيير الديمقراطى، وهى امتداد متطور لجبهة وطنية ديمقراطية أسسها المناضل القومى الناصرى الراحل جمال الأتاسى، وينهض بعبء قيادتها الآن خلفه المناضل حسن عبد العظيم، هؤلاء وحدهم مع قلة من خارجهم هم الذين رفضوا الوقوع فى الفخ المنصوب لثورة سوريا الوطنية الديمقراطية، وتعرضوا للأذى والتنكيل والقتل والسجن، ورفضوا مبدأ الرد على العنف بالعنف، واقتنعوا بأن «عسكرة الثورة» و«التدخل الأجنبى» يميتان الثورة، ويخدمان جماعة بشار بالذات، والتى أرادت جر الجميع إلى الحرب، وحتى تصبح الكلمة للسلاح لا لقوة الناس السلمية، وقد رفض قادة «هيئة التنسيق الوطنية» كل إغراءات الإنزلاق إلى الخطايا، ورفضوا المشاركة فى الحرب، ورفضوا الذهاب إلى مؤتمر جنيف العبثى، وظلوا مع شعبهم، يعانون ما يعانى، يقبضون على الجمر، ويعملون من أجل التغيير الثورى السلمى للنظام الديكتاتورى الاستبدادى، ودونما رهان على قوى أجنبية، تريد تفتيت سوريا وإنهاكها، وتحويلها إلى كانتونات طوائف، وإلى ملاعب قتل لا تنتهى إلا مع دفن آخر مواطن سورى . هل من حل فى سوريا ؟، لا حل فيما نظن بغير الاحتكام إلى إرادة الشعب السورى وحده، وتنحية قادة الإرهاب والقتل فى النظام أو فى المعارضة، ووقف الحرب المجنونة، وإعادة ملايين السوريين المهجرين إلى مدنهم وقراهم، وتنظيم انتخابات رئاسة وبرلمان تحت إشراف دولى، وليست المشكلة فى سؤال بديهى عن الأطراف المستعدة لتنفيذ الحل المقترح، المشكلة: أن أحدا لا يريد حلا، وإلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا