كتبت من قبل أن مصر بعد ثورة يناير باتت بها ثلاث قوى أساسية، التقليدية والثورية واليمينية. ما أن تتحد اثنتان إلا وتخسر الثالثة شر هزيمة. حدث هذا فى يناير 2011، ثم فى يونيو 2013، ومتوقع جدا ان تتكرر اللعبة، إلى ما لانهاية. ويقف الجيش متابعا هذه القوى، يلعب (فيها وبها ومعها) من بعيد أحيانا، ومن قريب احيانا كثيرة. وكلما تفرقت القوى الثلاث، بات الوضع مأزوما، لدرجة تدفع قوتين إلى الاتفاق الضمنى أحيانا، والصريح أحيانا كثيرة، للتخلص من الثالثة، نحن الآن فى حالة تفرق القوى الثلاث، صحيح أن حكومة الببلاوى تجمع خليطا من التقليديين والثوريين، إلا أنها فى حقيقة الأمر، ستكون اقالتها المشهد الأخير فى مسرحية التقارب «الماسخ» التى باتت لا ترضى جمهور القوتين. وحتى يأتى موعد المشهد الأخير، نعيش فى حالة حرب اعلامية «متأرجحة» اقرب إلى ابتزاز لحكومة الببلاوى التى يحملها الناس، ليس اكثر من قدرتها فحسب، بل اكبر من مخيلتها أيضًا. ماذا يريد الناس من حكومة الببلاوى؟ أو بمعنى أدق، ما الذى تستطيع حكومة الببلاوى فعله، فى وسط حالة من التخبط «المدروس» والدفع نحو الفرقة من أول يوم بعد عزل محمد مرسى. لا استطيع ان أمنع نفسى من التعاطف مع الببلاوى، رغم انه جاء فى لحظات أقل تشاؤما من نظيره عصام شرف. رغم أن الاثنين يشتركان فى كونهما ترأسا الحكومة بعد ثورة، والاثنان يديرهما من خلف ستار، المؤسسة العسكرية. الأول فشل فشلا ذريعا، والثانى لن يقل فشلا عنه، والسبب حجم الطموحات المرتفعة فى الشارع، وكونهما شماعة جاهزة لأخطاء المؤسسة العسكرية التى تدير البلاد، بنفس منطق مبارك مع الحكومات المتعاقبة فى عهده المتخم بالفساد والممزوج بتطبيق عملى لنظرية القرود الخمسة. النظرية حسب ما جاء فى ويكيبيديا أحضر خمسة قرود، وضعها فى قفص !، وعلِّق فى منتصف القفص حزمة موز، وضع تحتها سلماً. بعد مدة قصيرة ستجد أنَّ قرداً لنسميه القرد أ ما من المجموعة سيسارع كيما يرتقى السلم محاولاً الوصول إلى الموز (الحرية). والآن !، كلما حاول القرد أ أنْ يلمس الموز، ينبغى عليك أن تطلق رشاشاً من الماء البارد (تفزيع من التغيير) على القردة الأربعة الباقين فى الأسفل وأرعبهم!! بعد قليل سيحاول قردٌ آخر القرد ب أن يعتلى نفس السلم ليصل إلى الموز، والمطلوب منك أن تكرر نفس العملية، رش القردة الباقين فى الأسفل بالماء البارد. كرر العملية أكثر من مرة! بعد فترة ستجد أنه ما أن يحاول أى قرد أن يعتلى السلم للوصول إلى الموز ستمنعه المجموعة خوفاً من ألم الماء البارد (ايه اللى وداهم هناك، عاوزين تهاجموا منشأة عسكرية، عاوزين البلد تبقى فوضى). الآن، أبعد الماء البارد، وأخرج قرداً من الخمسة إلى خارج القفص، وضع مكانه قرد جديد القرد س1(مواطن يحلم بالتغيير)، هذا القرد لم يعاصر حادثة الماء البارد، ولم يشاهد شيئاً مما جرى داخل القفص. سرعان ما سيذهب القرد س 1 إلى السلم لقطف الموز، حينها ستهب مجموعة القردة المرعوبة ألما من الماء البارد لمنعه وستهاجمه (المواطنون الشرفاء المدافعون عن النظام، أو المشجعون على التعامل العنيف مع المتظاهرين). ستجد أن القرد س 1 مستغرباً من القرود، ولكن بعد أكثر من محاولة سيتعلم القرد س 1 أنه متى حاول قطف الموز فإنه سينال عقاباً قاسياً من مجتمعه لا يعرف سببه ولا يتبينه. الآن أخرج قرداً آخر ممن عاصر حوادث شر الماء البارد غير القرد س 1، وأدخل قرداً جديداً عوضا عنه، ليكن القرد س 2 (مواطن آخر يحلم بالتغيير) ستجد أن نفس المشهد السابق يتكرر من جديد. القرد س 2 يذهب إلى الموز بكل براءة وسذاجة، بينما القردة الباقية تنهال عليه ضرباً لمنعه. بما فيهم القرد س 1 على الرغم من أنه لم يعاصر رش الماء، ولا يدرى لماذا يعاقبه أبناء مجتمعه، كل ما هنالك أنه تعلم أن لمس الموز يعنى عقاب المجتمع. لذلك ستجده يشارك، ربما بحماس أكثر من غيره بكيل اللكمات والصفعات للقرد الجديد القرد س 2، وربما يعاقبه كى يشفى غليله من عقاب المجتمع له. استمر بتكرار نفس العملية، أخرج قرداً ممن عاصر حوادث رش الماء، وضع قرداً جديداً. النتيجة : سيتكرر الموقف. كرر هذا الأمر إلى أن تستبدل كل المجموعة القديمة الجيل الأول/القديم ممن تعرضوا لرش الماء حتى تستبدلهم بقرود جديدة! الجيل الثانى/الجديد فى النهاية ستجد أن القردة ستستمر تنهال ضرباً على كل من يجرؤ على الاقتراب من سُلم الموز. لماذا ؟، لا أحد منهم يدرى!!، لا أحد من أبناء المجتمع يدرى حقيقة ما يجري، لكن هذا ما وجد المجتمع نفسه عليه منذ أن تَكَوَّن ! ماذا سيفعل الببلاوى امام الابتزاز الاعلامى، سيخضع لطلبات المؤسسة العسكرية، حتى تتوقف الحملة الشرسة عليه، لكن الحملة لم تتوقف، بل اتسعت رقعتها، وحتى المواطنين الشرفاء المؤيدين لكل ما يفعله النظام باتوا اكثر كرها له، رغم انه ينصاع للأوامر. كان المطلوب من الببلاوى تسيير امور الدولة، حتى تعبر خارطة الطريق، التى كانت محددة بستة اشهر، امتدت قليلا لسنة تقريبا، لكنه دون أن يشعر، قرر ان يفكر فى وضع اسس لبناء نظام، لا يعلم هو ولا من حوله محدداته، او صفته، او شكله. وبدلا من ان يوفر لقمة العيش، وانبوبة البوتاجاز، ولتر البنزين، راح يسعى لتنظيم الحياة السياسية وفقا لهوى المؤسسة التى تدير، لا وفقا للتوافق بين اطراف العملية السياسية. عودة لنظرية القرود، الخروج الاحتجاجى بات جريمة لا أحد من المواطنين يعلم لماذا هى جريمة، معارضة السيسى باتت خيانة، ولا احد يعلم لماذا هى خيانة، التضامن مع معتقلات الإخوان خسة وندالة، ولا احد يعلم لماذا هى كذلك. اصبحنا الجيل الثانى من القرود، نخون ونكفر، ولا نعلم لماذا، ولم نفكر كيف وصل بنا الحال إلى هذا الوضع. هل يمكن ان يقبل مواطن يحب مبارك، ان يعيش مع مواطن يكرهه؟ هل من الممكن ان يصافح مؤيدو السيسى انصار مرسى؟ هل يقبل الثوار ان يقف بجوارهم من يخالف افكارهم، لكنه يدافع عن حقهم فى التعبير؟ نحن الجيل الثانى من القرود الذى صنعته عهود متتالية من الفساد، ونحن من سيدفع ثمن عدم التوقف لحظة للتفكير والتأمل. أقول: احبوا مبارك كما تشاءون، اعشقوا السيسى كما تتمنون، ألهوا مرسى كما تدعون، العنوهم جميعا لو اردتم.. لكن أحبوا انفسكم أولا، ثم أحبوا من حولكم، فإن فعلتم، سنصبح أفضل جدا.