قولوا مجنونا وازدجر، قولوا خائنا مضطربا، قولوا ما شئتم، فالأمر سار ماسخا، مرا علقما، ضرب جينات المحبة فى مقتل، وأسس بنيانا من الكراهية، يناطح مواقع الشياطين فى النجوم. قتل هنا، وذبح هناك، اشارة هنا، وتعصب هناك، سخافة هنا، واستخفاف هناك، ما عاد فى القلب ساكن الا الاكتئاب. لم اشعر يوما باختلاف مثلما هو قائم كسور الصين العظيم بينى وبين جماعة الاخوان، ولم اشعر يوما بمحبة تجاه عسكر او شرطة، كما هو ممتد حتى الآن، ولم اعتقد يوما ان شبابا زاملونى فى ثورتين هم فقط من يملكون صكوك الحقيقة، كما هو يتسرب من بين عقلى وقلبى الآن. الى أين نحن ذاهبون، أو هى مصر رايحة على فين، ولا يخرجنى من اكتئابى ولو للحظة، تلك الطرفة التى اطلقها الراحل العظيم جلال عامر، حين قال مش كنت تسأل قبل ما تركب. ما عاد فى القلب ذرة كبر، ولا فى العقل ذرة فكر، قبائل همجية تعبت من التناحر واختارت طريق المصالحة، وشعوبا قطعت اوصال اطفالها، وبقرت بطون نسائها، وسحلت اجساد رجالها فتوصلت الى قمة الاسد المتسامح. ونحن مازلنا نغنى بتاريخ آلاف من السنين حضارة، والمصريين أهمه، وتسلم الايادي، والله اكبر فوق كل معتدي، دون ان نسرق من ملفات حضارتنا لحظة محبة، او ثانية من حب، فقط الكراهية والبغض، والكيد، وما أدراك ما الكيد، حتى ادركت أن كيدنا فينا عظيم. أغمض عينك وتخيل أن شقيقك قد احتل بيتك، ثم خطف ابنك ثم اغتصبه، ثم قطع أوصاله أمام ناظريك، ستنفر العروق، وتشد الاجزاء، وتختفى الدنيا بكل حلوها وجمالها من عقلك قبل عيونك، وستظل تقتل حين تتملك من قاتل ولدك، ولا تتوقف عن القتل حتى يتوقف غضبك عن الدفع. افتح عينيك الآن أو بعد ساعة، وأنت ترى ولدك يلهو ويلعب امامك ، هل سيهدأ قلبك؟، هل ستنطفئ نارك؟ بالطبع لا، فالغضب يملأ وجدانك، والرغبة فى الانتقام تسيطر على مشاعرك، وأمام أقل موقف، وفى أى لحظة، ستفرغ الشحنة المكبوتة، التى لا تعلم يقينا من الذى شحنها. لا مصالحة الا بعد القصاص، ولا قصاص الا بعد القبض على المجرمين، وكلا الطرفين مجرمين، وكلا الطرفين ضحايا. أجرمنا عندما اخترنا طريقا نمشى فيهم بمفردنا فوق جثامين الناس، أو أجرمنا عندما سنحت لنا الفرصة لنعيد فعلة ما سبق وإن فعلها سابقونا. نحن ضحايا فقرنا، وجهلنا، وفسادنا، وعنادنا، وكيدنا. مدعى الدين يقبض ثمن قتله لمن هو على نفس دينه، للحفاظ على دينه، ومدعى الوطنية يمنح نفسه حق سحل وتعذيب ابناء وطنه للحفاظ على وطنه. من الذى نصبنا أوصياء على بعض؟ من الذى شحن رصيد التكفير والتخوين فى قلوبنا قبل عقولنا؟ من الذى جعل من أشباه بشر يسيرون موتى وهم أحياء عند الشيطان يرزقون؟ قرون عدة مضت من ممارسات دموية، ومجازر ثأرية وعمليات انتقامية وحروبه إبادة، راح ضحيتها ملايين من البشر، لكن الشعوب الحية بالشهامة والحب، جعلت الغضب طريقا للتسامح، والدماء التى اريقت على قارعة الطرق، شريانا للعدالة. دول عديدة اخذت طريق المصالحة وتفادت حروبا أهلية، مثل جنوب افريقيا، عندما بدأ فى اشعالها العنصريون البيض بعد الثورة التى أطلقت سراح زعيمها «نيلسون مانديلا». من جنوب افريقيا الى «سيراليون»، الدولة التى فقدت ما بين 50 الفا الى 400 الف قتيل فى حرب اهلية دامت 11 سنة، أججتها دولا مجاورة، بحثا عن نفوذ وغنائم، ومناجم الماس. لسنا هم، وليسوا نحن، لكننا بشر، قد لا نكون حكماء لنتعلم من اخطاء غيرنا، لكن على الاقل نكون عقلاء، ونتعلم من اخطائنا. باحثة مجتهدة، اسمها أمل مختار، نشر لها مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، بحثا غاية فى الرقى والعمق، كان عنوانه لجنة الحقيقة: بين التجارب الدولية والخصوصية المصرية. البحث جدير بالقراءة، والتأمل، فهو يمنحك قدرا من الأمل، ويجعلك تؤمن ان هناك حلولاً، شرط ان نعالج انفسنا من فيروسات الكيد والحماقة التى تسكن تصرفاتنا. تقول امل مختار: تنتشر بصورة كبيرة بعض الافكار المغلوطة حول مفهوم العدالة الانتقالية، ولعل اكثر هذه الافكار انتشارا وذيوعا هى ان العدالة الانتقالية مصطلح يرادف بشكل كامل مفهوم المصالحة الوطنية وكثيرا ما يتم شرح المفهوم عمليا بحالة جنوب افريقيا ولجنة الحقيقة والمصالحة الشهيرة والتى انشأها مانديلا فى 1994 بعد وصوله الى منصب الرئاسة فى بلاده وانتهاء فترة الابارتيد. والاكثر من ذلك انه كثيرا ايضا ما يتم الاشارة الى استخدام الية العفو العام فى هذا النموذج ومن ثم الترويج لفكرة العفو كحل سحرى للصراع السياسى الدائر فى مصر سواء بعد ثورة يناير/2011 او بعد موجتها التصحيحية فى يونيو/2013، وهو الامر الذى يتسبب فى قدر كبير من تشويه فكرة العدالة الانتقالية بل اثارة الكثير من الغضب فى مواجهة تطبيقها. على ارض الواقع اختلفت كل دولة فى طريقة تحقيق العدالة فى فتراتها الانتقالية وفقا لعدة عوامل منها رؤية النظام الجديد، قوة النظام السابق، حجم الانتهاكات ونوعيتها..الخ. كما ان العدالة الانتقالية لا تتطابق مع المصالحة الوطنية، ولكن المصالحة هى إحدي اليات او طرق او مكونات العدالة الانتقالية. وفى بعض الخبرات الدولية كانت رؤية النظام الجديد هو تحقيق العدالة الانتقالية من خلال اداة المصالحة الوطنية، وبالطبع النموذج الاكثر شهرة على الاطلاق هو نموذج جنوب افريقيا بينما الارجنتين على سبيل المثال تبنت منذ بداية النظام المدنى بعد سقوط النظام العسكرى السلطوى فى 1983 فكرة تحقيق العدالة الانتقالية عن طريق الية المحاكمات وليس عن طريق المصالحة مع المذنبين من رجال النظام القديم، وعلى الرغم من تأخر المحاكمات وتعرج المسار الا انه فى نهاية المطاف وصل الى المحاكمات العادية وصدرت العديد من الاحكام . الاهم من كل هذا كما تقول الباحثة ان المصالحة الوطنية لا تعنى بالضرورة العفو العام وافلات المذنبين من العقاب، وهو بالفعل امر غير صحيح على الاطلاق، فنموذج جنوب افريقيا الذى يعتبره البعض رمز العفو العام، تقول الارقام انه من بين 7116 طلب عفو، لم تمنح اللجنة عفوها إلا ل 1312 أى رفضت أكثر من 80 % من الطلبات، كما ان ذلك العفو لم يكن ابدا عفوا عاما ولكنه كان عفواً خاصاً ومشروطاً، وقد كانت هذه الشروط هى: الاعتراف بالذنب، وان يكون المذنب قد ارتكب الذنب بناءً على اوامر من قيادته العليا فى ظروف لم يكن له القدرة على رفضها، وان يقوم طالب العفو بتقديم طلبه بنفسه واحيانا كثيرة كان يُشترط موافقة الضحية أو ذويها. لذا من يقول إن العدالة الانتقالية وسيلة الجناة للإفلات من العقاب، مضلل، وعلى قدر كبير من الحماقة، اوالخبث. الاهم فى بحث امل مختار انها أوضحت الفارق الكبير بين تحقيق العدالة الانتقالية بشكل عشوائى وبين تحقيقها وفقا لمبدأ البدء بالكشف عن الحقيقة اولا. فعلى سبيل المثال اذا بدأ النظام الجديد بتنفيذ الية جبر الضرر وتعويض الضحايا قبل كتابة الحقيقة سنكون امام مشهد غير صادق وغير فعال تماما كما كان المشهد المصرى منذ اندلاع ثورة يناير وحتى اليوم. لانه فى هذه الحالة سيتحول الى طريقة لإسكات الضحايا. ويكمن الخطر هنا فى امرين، اولا: فى ضياع حقوق العديد من الضحايا عن طريق اسكات جزء منهم بالحصول على بعض التعويضات المالية او حتى المعنوية مثل اطلاق اسم الشهداء على محطة المترو، «او عمل نصب تذكاري». ثانيا: فى عدم مصداقية هذه القوائم بمعنى ان السرعة فى اجراءات التعويضات قبل الكشف عن الحقيقة ربما تؤدى الى نتائج عكسية. فى حين لن يكتمل مسار الحقيقة الا بعد الاعتراف الرسمى للدولة والاعتذار لهؤلاء الضحايا وذويهم ومحاسبة الجناة عن طريق محاكمتهم ثم تعويض الضحايا وجبر ضررهم معنويا ثم ماديا وبصورة علنية ورسمية. مثال آخر اذا قام النظام الجديد بتفعيل آلية اصلاح المؤسسات قبل الكشف عن الحقيقة وتحديد مواطن الفساد فى جسد كل مؤسسة على حدا وتحديد العناصر الفاسدة بهدف استئصالها او عزلها سنكون امام مشهدا مدمرا للدولة تماما مثل المشهد العراقى فى 2003. ان من اهم اسباب شهرة لجنة الحقيقة والمصالحة الجنوب افريقية هى انها جاءت من رحم رؤية وطنية خالصة تدرك ما يحتاجه المجتمع داخل هذا الوطن الذى عانى لعقود من سياسات قاسية من الفصل العنصرى، ومن ثم لا يصح على الاطلاق استنساخ هذا النموذج فى الحالة المصرية. اما فى الارجنتين كانت رؤية النظام الجديد هو تجميع الادلة الممكنة لفتح باب المحاكمات ضد رجال النظام القديم وهم من رجال المؤسسة العسكرية وقد كانت الحقيقة المذكورة فى التقرير النهائى هى الوثائق والادلة الوحيدة لادانة هؤلاء المذنبين. اما فى الحالة المصرية من الضرورى جدا ان تكون رؤية النظام الجديد من تشكيل لجنة الحقيقة متناسبة مع طبيعة الفترة الانتقالية، بمعنى ادق انها ليست فترة سلم بعد صراع عرقى او اهلى طويل كما انها ليست انتقالا بعد سقوط نظام قمعى خلف وراءه عشرات الآلاف من الضحايا. كما ان تحقيق المصالحة الوطنية فى تيمور الشرقية وسيراليون امر ايضا لا ينطبق على الحالة المصرية، حيث إن حالة الصراع المجتمعى الذى ظهر فى مصر عقب ثورة يناير وازدادت حدته بعد وصول مرشح الاخوان المسلمين محمد مرسى الى الحكم وازداد اكثر بعد عزله ليس صراعا بين عرقين او طائفتين يمكن التمييز بينهم مثل السكان الاصليين والوافدين فى جواتيمالا او كندا او بين السود والبيض فى جنوب افريقيا او بين الهوتو والتوتسى فى رواندا. ولكنه صراع فكرى وانتماءات حزبية لا يمكن التمييز فيها بين الطرفين. ومن ثم تحتاج المصالحة المصرية لبعض الاجراءات التى تمهد الطريق امام التعايش السلمى مثل تنمية الثقافة السياسية وتحويل طاقة الصراع اللفظى والمادى الى منافسة حزبية كذلك تقنين عمل الاعلام حتى يكون سببا فى تخفيف حدة الاستقطاب. وتحسين الاوضاع الاقتصادية لتقليل نسبة البطالة ومن ثم امتصاص حالة الغضب عند الشرائح العمرية الصغيرة. ولا شك ان توثيق الحقيقة واعلانها سيكون له اثر مهم على تهدئة الضحايا وذويهم وهو الامر الذى من شأنه بالطبع ان يمهد الطريق امام التعايش السلمى والمصالحة بمعناها الواسع والعام. وترى امل مختار أن الرؤية المصرية فى تشكيل لجنة الحقيقة ينبغى ان تكون هدفها تشريح مؤسسات الدولة والمجتمع المصرى ومعرفة الاسباب التى ادت الى حدوث تلك الانتهاكات والتجاوزات التى كانت سببا فى قيام الانتفاضات الشعبية المتتالية من 2011 وحتى 2013 بهدف اصلاح مؤسسات الدولة الامنية والادارية والسياسية وضمان عدم تكرار تلك الانتهاكات فى المستقبل. اذا فالحالة المصرية تحتاج الى لجنة حقيقة تحت اسم «لجنة الحقيقة والاصلاح» قائمة على اساس رؤية واضحة لنظام جاء بعد سقوط نظامين بأن الهدف الاسمى هو اصلاح المستقبل وتمهيد الطريق امام بناء دولة القانون والعدالة والحكم الرشيد الذى لا يمكن ان تكون الا من خلال مؤسسات صالحة تتبع معايير الشفافية والنزاهة وتحترم حقوق الانسان. وهذا الاصلاح لا يمكن له ان يكون فعالا الا اذا كشفنا حقيقة الفساد المالى والادارى والاخلاقى الذى ادى الى هذه العقود من الانتهاكات الحقوقية والاقتصادية الكبيرة وتختتم الدراسة بقولها من المهم ان تأتى لجنة الحقيقة المصرية فيها قدر من الابداع الخاص بها وبخصوصية حالة الانتقال المصرى، وتكون نموذجا استرشاديا لبقية الدول العربية التى تمر بمراحل انتقالية متعثرة، او ربما لدول عربية اخرى كخطوة اصلاحية استبقاية فيها .