أقامت لجنة الإغاثة بنقابة أطباء الاسكندرية يوم الجمعة 30/1/2009 حفل تكريم للأطباء الذين كان لهم شرف التوجه إلي غزة أو (أرض الرباط) - كما يحلو لهم تسميتها - للمساهمة في علاج الجرحي الفلسطينين في المسستشفيات أثناء العدوان الإسرائيلي الأخير علي غزة، ولما كانت هذه التجربة الجهادية تجربة مليئة بالبطولات والتضحيات التي يجب أن تعرف لتكون عظة لنا جميعا حتي نعرف قيمة الجهاد وعظم التضحية بالنفس في سبيل الله والوطن وأنه مهما كانت قيمة حب الإنسان للحياة فإن ذلك يهون أمام حب الاستشهاد في سبيل الله، كل هذه المعاني الجميلة التي يجب أن نعرفها ونؤمن بها إيمانا لا يخالطه شك وحتي لا يكون الحديث فيها مجرد كلمات حماسية تلقي ويسمعها الناس ويتأثرون إلي حد البكاء ثم ينصرف كل إلي حال سبيله، فلابد أن نراها حية متمثلة أمامنا نلمسها بأيدينا ونراها بأعيننا، من أجل ذلك كانت الذكريات التي ساقها لنا هؤلاء الأبطال الذين عاشوا العدوان الغاشم لحظة بلحظة وهم في قلب المعركة، يقول أحدهم : عندما وصلنا إلي غزة قابلنا أهلها بترحاب شديد وإحساس جارف بالامتنان والأخوة الصادقة علي هذه التضحية بالنفوس من أجلهم ولم نكن نشعر نحن بأكثر من أننا نقوم بواجب تجاه أخوة لنا يجب علينا الوقوف إلي جوارهم إلي جانب أن كل واحد منا كان يأمل في أن يمن الله عليه بالشهادة التي هي خاتمة السعادة التي يطلبها من الله عقب كل صلاة، ويقول آخر إنني عندما وصلت إلي المستشفي الذي كان من نصيبي أن أعمل به وكان سقفها من المعدن وإذ بغارة جوية تتسبب في هدم السقف واهتزاز الجدران وتطاير الحطام علينا وأصبت بالرعب من الموقف وأخذت أنظر حولي وإذا بطبيب صديق مصري ينظر إلي ويقول لي : ماذا بك؟.. أليس من أجل هذا حضرنا ؟ وهنا وجدت الخجل والعرق يتصبب من جبيني ووجدتني أسترد عافيتي النفسية وأقدم علي العمل بالمهمة التي أتيت إليها وبعد أن قمنا بتنظيف المكان حيث إنه في هذه الظروف كل إنسان يقوم بالعمل الذي يستطيع القيام به لا فرق بين طبيب وممرض وعامل نظافة وأثناء وقوفي في لحظة راحة مع بعض الأطباء قال لي أحدهم : هل هنأت زميلنا فلان ؟ فسألته علي أي شيء أهنئه؟.. فقال لي : لقد استشهد ابنه أمس، وهنا أخذتني المفاجأة للحظات قبل أن أمد يدي للتهنئة، حيث كان الزميل والد الشهيد يمد يده إلي ليتلقي التهنئة وعلي وجهه ابتسامة هادئة وقلت لنفسي : ألهذه الدرجة تغلغل الإيمان وحب الوطن وحب الجهاد في نفوس هؤلاء الناس؟.. إنني لأتصور الآن أنني أعيش في مكان يذكرني بمسلك الصحابة رضي الله عنهم، حيث كانوا يحرصون علي الشهادة حرص أعدائهم علي الحياة. نشأ أطفال غزة علي عدم الخوف، فإنك تكاد تذهل حين تراهم منغمسين في اللعب في الشوارع أثناء الغارات الجوية بل إن بعضهم يتصور أنه يمكن أن يصيب الطائرات المعتدية برصاص بندقيته التي يلهو بها وقد يفسر ذلك كثرة عدد القتلي والمصابين من الأطفال، حيث لم يكن يتحاشون هذه الغارات بعد أن صارت جزءا من حياتهم. وقال أحدهم : كنت مدعوا علي الغداء عند أحد زملائي وأثناء ذلك حدثت غارة جوية فقام ابنه الصغير يأخذ سلاحه اللعبة وفتح الباب للخروج للتصدي للطائرات المغيرة، فلم يمنعه والده فقلت له: ألا تخف عليه خاصة أن شقيقه قد استشهد منذ أيام؟.. فقال إني أخاف عليه بالطبع ولكن هذه حياتنا تعودنا عليها ولا أستطيع أن أمنعه من الاختلاط بزملائه، خاصة أن -كما تشاهد - الغارات لا تنقطع ليل نهار، كما أني لا أحبه أن يشب عن الطوق خائفا مرتعدا. قال أحدهم : لفت نظري تركيز العدو علي قصف وهدم المساجد وليس صحيحا ما يدعيه العدو بأن المجاهدين اتخذوا منها أماكن لاختبائهم وإطلاق الصواريخ منها، فهذه حجة ساقطة لأن المجاهدين يعلمون أنهم يحاربون عدوا لا يعرف حرمة لمسجد أو احتراما لمستشفي أو مدرسة حتي إنه قصف الأماكن الخاصة بالأممالمتحدة التي لم تكن عرضة لذلك في أي حرب مضت إلا حروب إسرائيل التي لا تحترم شيئا سوي القوة التي توقفها عند حدها. أما السبب الرئيسي لقصف المساجد فهو إحساس إسرائيل بأنها الأماكن التي تعد الناس إعدادا جيدا للجهاد والصبر علي تقبل نتائج الحرب. أجمع الجميع علي أنهم لم يسمعوا أحدا يشكو أو يتبرم أو يلقي اللوم علي أحد كما يحاول البعض إشاعة ذلك بل كانت تقتصر تعبيراتهم علي حمد الله ولا حول ولا قوة إلا بالله والنطق بالشهادتين مع محاولة تثبيت من يتعرض للإصابة الشديدة أو فقدان الأهل والأحباب. كانوا يحاربون وهم يتعرضون للحصار الخانق حتي في أسباب الحياة من مأكل وملبس ودواء ورغم ذلك هم صابرون محتسبون كل ذلك عند الله، ولم تر سائلا يسأل الناس في الطرقات كما هو الحال في كثير من بلاد العالم، بل كان الرجل يقتسم لقمة العيش مع أخيه وقد يكتفي بوجبة واحدة في اليوم حيث لم نشاهد مشاجرات علي طابور العيش أو البوتاجاز كما نشاهد في مصر مثلا، بل كل واحد يؤثر الآخر علي نفسه ومن هنا لم تحدث أزمات رغم الحصار والضيق والحرب. أي مجتمع هذا الذي كانوا يتحدثون عنه ؟!، وهل يمكن للإيمان أن يفعل بالناس كل ذلك؟ وإذا كان للإيمان كل هذا التأثير الحسن فلماذا يقاومه الحكام العرب كل هذه المقاومة؟ استعمل الصهاينة كل أنواع الأسلحة في هذه الحرب وكما سمعنا منها أسلحة محرمة دوليا مثل الفسفور الأبيض، وهناك سلاح جديد لم نسمع عنه من قبل وهو مايفسر لنا كثرة إصابات بتر الاعضاء في هذه الحرب وهي قنابل تحوي اسطوانات لها شفرة حادة تتطاير منها فور انفجارها وهذه القنابل لا تنفجر إلا بعد أن تصطدم بالأرض ثم ترتفع قدر عشرين سنتيمترا وهو ما يتسبب في بتر السيقان حتي الركبة بمجرد ملامسة العضو وقد ألقيت إحدي هذه القنابل أمام مسجد أثناء خروج المصلين منه وتسبب انفجارها في موت العشرات وبتر سيقان العشرات. هذه هي وسائل وأساليب هذا العدو الجبان الذي لا يعرف الحرب إلا عن بعد ولا يستطيع المواجهة وصدق الله العظيم في قوله (لا يقاتلونكم جميعا إلا في قري محصنة أو من وراء جدر) فهم لا يستطيعون القتال إلا بإلقاء القنابل من الطائرات، حيث لا يوجد سلاح طيران يعترضهم أو مدافع مضادة للطائرات تطاردهم. أو من داخل دبابات يتحصنون بها أو مدافع يحتمون بها وشهد الكثير ممن احتكوا بهم أن الواحد كان يبقي داخل الدبابة مدة أكثر من أربع وعشرين ساعة لا يستطيع مغادرتها خوفا من الموت الذي يتربص به في الخارج وكان يقضي حاجته عن طريق البامبرز، حيث عثر علي كراتين الكثير منها في الأماكن التي كانوا يدخلونها ثم ينسحبون منها وهو ما لم نسمع به من قبل ويدل دلالة كبيرة علي الخوف والرعب الذي يعيشون فيه ورغبتهم الشديدة في وقف القتال حتي إنهم أوقفوه من جانب واحد وانسحبوا في مدة أقل مما أعلنوا عنها حرصا منهم علي شعور جنودهم الذين كانوا يرغبون في الانسحاب من المعركة التي كان الموت يلاحقهم فيها في كل وقت. جيش هذا شأن جنوده يجب أن يطلق عليه جيش البامبرز حتي يعرفه العالم بهذا الاسم وحتي يعرف الناس مدي قدر قوته وأن تزول هيبته من نفوس الناس وأن تعرف أمريكا أنها إنما تعتمد علي جيش من الجبناء لا يخافه إلا جبناء مثله، والحقيقة أن الجيش الأمريكي نفسه هذا شأنه، إذ إنه لم يثبت يوما أمام قوة تواجهه، وأنه لا يعرف إلا الضرب عن بعد حتي يستطيع القضاء علي عدوه إن استطاع. موقف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان عن العدوان الاسرائيلي يستحق الإشارة وقد توج هذا الموقف بما حدث في المؤتمر الذي عقد في دافوس مع الرئيس الإسرائيلي بيريز والصلابة التي واجهه بها بعد حديثه عما حدث في غزة، هذا الموقف لا يتخذه إلا حاكم منتخب انتخابا ديموقراطيا نزيها تعب وجاهد في سبيل الوصول إليه حيث تربي تربية قوية علي مواجهة المواقف الصلبة التي يتعرض لها، أما الحكام الذين يصلون إلي كراسي الحكم بالتزوير ويبقون فيها بذات الطريقة فإنهم لم يتدربوا علي مواجهة المواقف الصعبة، وهذه إحدي نتائج الديموقراطية وفي ذات الوقت عيوب الديكتاتورية التي تنتج لنا حكامنا ينطبق عليهم المثل القائل "أسد علي وفي الحروب نعامة"، فهم أسود علي شعوبهم المغلوبة علي أمرها المقهورة بقوات الشرطة وفي ذات الوقت ضعاف منهارون أمام الأمم الأخري التي لهم شخصيا مصالح معهم يخشون عليها فتحية لهذا الرئيس الذي أعاد إلينا ذكري جده محمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية وكون الإمبراطورية العثمانية التي لو كانت قائمة الآن لما كانت إسرائيل، ونظرة إشفاق علي السيد عمرو موسي الذي كان حائرا لا يعرف ماذا يفعل وأخيرا استجاب لإشارة أمين عام الأممالمتحدة له بالبقاء فبقي، وكان الأجدي به أن ينسحب، لأن رئيس الوزراء التركي كان يدافع عن قضية عربية في الأساس وعمرو موسي أمين عام الجامعة العربية كان يمثل العرب الغاضبين علي ما يحدث في غزة ولكن يبدو أنه يمثل الحكومات التي لها رأي آخر فيما يحدث وليس الشعوب التي تشعر بالحزن والخزي والعار من حكامها لموقفهم من هذه الحرب والخائفون من جيش البامبرز الذي لا يخافه إلا الجبناء. مرة أخري تحية إجلال وتقدير من كل عربي ومسلم وإنسان علي ظهر هذه الأرض إلي هذا الرجل الذي أعاد إلينا ذكري أجداده العظام.