الفن هو «محاولة لخلق تكوينات ممتعة»، والمقال هو فن من الفنون مثل الشعر والموسيقي والغناء والرسم.. إلخ من شتي أنواع الفنون، ومهما كانت قيمة المقال الثقافية فإن القارئ لن يستمر في قراءته طالما أفتقر هذا المقال إلي متعة القراءة، ومن ثم يفقد الكاتب قارئه مثلما فقد القارئ فرصتي المتعة والثقافة معاً. ومن الأسباب الرئيسية التي تجبر القارئ علي أن يحجم عن استكمال قراءة المقال والاستمتاع به صعوبة كلماته التي تؤدي إلي غموض الجمل التي تلي هذه الكلمات، ولذلك فإن درجة الاستمتاع بقراءة المقال تظل مرتبطة بسهولة الكلمات وبساطة التعبير ووضوح الهدف وأمانة العرض وكذلك جرعة الثقافة السلسة التي يقدمها الكاتب. ومن الضروري أن كاتب المقال ينبغي أن يبسط الحقائق ويغوص في قاع المجتمع ويخاطب الجماهير العريضة ويكشف الفساد ويبسط المفاهيم ويقربها إلي القارئ، ومن ثم فعلي الكاتب الذي يأخذ من صحفات جريدته أو مجلته مجالاً له لمخاطبة القارئ أن يلتزم بما سقناه من محددات. وبهذه المناسبة فقد جذبني عنوان أحد مقالات الدكتور سيار الجميل بمجلة «روزاليوسف» بتاريخ 8/8/2009 وهو «العولمة بريئة من دم العرب»، حيث هالني هذا الكم من الكلمات الصعبة والمبهمة والتي قضت علي متعة الاسترسال والاستمرار في القراءة، وهو ما أجبرني مرغماً علي التوقف عن قراءة المقال، خاصة بعد أن أحصيت أكثر من خمسين كلمة غامضة.. استأذن القارئ في سرد بعضها: مركزيات جيوستراتيجية أوضارنا الذهنية المركبة النصوص المؤدلجة المسوغات المخيالية مألوفات الحاضر القطعية المعرفية الحكواتية الشوفينية الجدران السامقة حفريات نقدية التسويغ المسجونات دجنته القطرية العشائرية الأصقاع المديات العلاقات البومية.. إلخ من هذه الألغاز. أما إذا أصر القارئ علي استكمال قراءة مثل هذه المقالات، يصير عليه مرغماً أن يخوض تجربة مؤلمة وهي الاستعانة بأحد المعاجم «عربي/عربي» لتفسير ما يستعصي عليه من هذه الألغاز، مع الوضع في الاعتبار أن تفسير الكلمات في أي قاموس عربي ليس بالأمر الهين، حيث يتعين علي القارئ أولاً استخراج مصدر الكلمة وهو ما يتطلب كفاءة لغوية جيدة، أما إذا كان القارئ يفتقر إلي هذه الكفاءة فلابد له أن ينتقل إلي مرحلة أخري، وهي تطبيق القاعدة الآتية والتي نصت عليها القواميس العربية لكي يتمكن من استخراج مصدر الكلمة: يكون المصدر مؤلفا إما في ثلاثة أو أربعة أحرف، ومن أجل معرفة هذا المصدر يتم تجريد الكلمة من الأحرف المضافة إليها، والأحرف المضافة هي علي التوالي «س،ي، ت، م، ن، و، أ» وجمعت بكلمة سيتمنوا وبعد ذلك إذا نجح القارئ في انتزاع المصدر من الكلمة يقوم بالبحث عنه داخل المعجم، عسي أن يقوده إلي معرفة الكلمة المقصودة، وهذا بالطبع إذا وجد المصدر في المعجم من الأساس، فقد تكون تلك الكلمة غير عربية أو كلمة مهجورة، ولنا أن نتصور حجم المعاناة التي من الممكن أن تصيب القارئ إذا تعرض لمحنة كهذه، خاصة مع هذا الكم الهائل من الكلمات المبهمة. أما إذا رجعنا إلي عنوان مقال د.سيار وهو «العولمة بريئة من دم العرب» فكان ينبغي أن يقدم تعريفا لمصطلح العولمة، خاصة وهي مفتاح المقال، ومن المعروف أن هذا المصطلح قد انتشر خلال السنوات الماضية انتشاراً واسعاً، ولا يوجد أي غضاضة بالنسبة لمن يكتبون عن العولمة في تكرار التعريف الخاص بها بطريقة مبسطة وواضحة حتي يتعود عليها القارئ ويأنس لها، فالانسان دائما يكره ما يجهله خاصة وهناك البعض يخلط بين العولمة والعلمانية وآخرون يعتبرون هذين المصطلحين نوعا من أنواع الكفر، وعندما زار مصر توني بلير رئيس وزراء إنجلترا السابق منذ عدة أشهر قدم تعريفا منطقيا وسهلا للغاية للعولمة وقال إن العولمة هي: إزالة الحواجز والقيود بين الدول، وتحويل العالم إلي أرض منبسطة تتحرك عليها الأفكار والسلع والخدمات دون حدود تمنعها أو تعوقها، وقال إن الحل الوحيد للتعامل مع العولمة هو التعليم الجيد، وهو السبيل الوحيد إلي الابتكار والابداع، وهو الذي يتيح لصاحبه أن يكون شريكاً في جني ثمار العولمة في شتي أنحاء الأرض.. «لاحظ العمق المقترن بالبساطة». وفي نهاية هذه السطور كان من الضروري محاولة الوقوف علي بعض الاسباب الرئيسية التي تجعل كاتب المقال عاجزاً عن وصول كتاباته إلي الأغلبية من القراء.. وهي: 1 عدم إدراك الكاتب بوجود أغلبية لاتستطيع استيعاب مقالاته مثل زكي نجيب محمود والعقاد.. رحمهما الله وأخيراً د.سيار الجميل، وأرجح أن هذا العجز في التعرف علي أحوال المجتمع إنما يرجع أساسا إلي أن معدلات النضوج الاجتماعي والنفسي لدي هؤلاء الكتاب لاتتناسب مع مواهبهم العلمية، وذلك لقلة اختلاطهم بالمجتمع والانعزال عنه. 2 رغبة الكاتب الملحة في مخاطبة المثقفين فقط، مع أن المثقف قد لا يحتاج إلي مزيد من الثقافة بقدر احتياج غير المثقف لها، وترجع هذه الطبيعة العنصرية الممجوجة لدي بعض الكتاب إلي الرغبة الملحة في استعراض علمهم بل والتمتع بتعذيب القارئ والاستمتاع بوجود هوة علمية بينه وبين الناس.