فاجأنا الروائي الكبير محمد البساطي بتناول الواقعة في روايته «أسوار» وهي رواية تتناول عوالم المعتقلين السياسيين والمسجونين، تدور أحداثها داخل السجن بعالمه القاسي، شخصيات متناقضة يعيشون خلف أسوار عالية وكعادة من يريد التودد إلي نظام ديكتاتوري، ولو علي حساب أخلاقه ومبادئه يتطوع أحد الضباط برتبة رائد يعلم أن مباحث أمن الدولة تريد تلقين أحد كبار الصحفيين - الدكتور عبدالحليم قنديل - درسا لنقده الدائم للسلطة، يتطوع - هذا الضابط - لتنفيذ المهمة القذرة ويسهل لأحد المسجلين خطرا ويدعي «أبوكف» الخروج من السجن، والقيام بدور سائق تاكسي لاختطاف الصحفي والاعتداء عليه، وبالفعل ينجح المخطط، الخلاء يضيئه القمر، أشجار علي الجانب حقول ممتدة يتمايل زرعها، الطريق خال لا سيارات خلفهم ولا أمامهم قال أبوكف: ومين في الزمن ده بيقرا جرايد؟ الزبون: إيه الحكاية؟ - حكاية إيه يا راجل.. أنت خليت فيها حكاية.. أوقف السيارة علي جانب الطريق، فتح الباب الخلفي طرح الزبون علي وجهه فوق المقعد، قيد يديه برباط سحبه من «جنبه» قال الزبون: لو حكاية فلوس، وقبل أن يكمل كلماته دس السائق منديلا في فمه. السائق: لسه بتتكلم عن الحكاية ودفعه إلي أرضية السيارة «مش عايز صوت». ويستمر البساطي في السرد، يحكي عن تجريد الصحفي من ملابسه والاعتداء عليه ضربا بالحزام وحتي لا يصدر الزبون صوتا دس أبوكف المنديل في فمه، وأعاد تقييد يديه، سحب الحزام وتأمل للحظة الجسد الملقي علي الأرض، كان ضئيلا شاحبا في ضوء القمر وعندما ثني ساقيه برزت عظامه، هوي بالحزام فوقه، تقوس الجسد وانقلب علي وجهه تدحرج والحزام يلاحقه، يذم ويئن وتظل المقاومة لآخر رمق. وفي مقطع من سرد عملية الاعتداء البشعة يصف المؤلف «قنديل» بالمتماسك ورابط الجأش من خلال وصفه للضحية غير المستسلم عندما فوجئ أبوكف ببصقة تنطلق في وجهه، مسحها بالمنديل ورمي به. رسالة النظام كانت واضحة ولكن «أبوكف» - الغبي - حسب ما أورده البساطي حاول أن يتذكر الرسالة التي طالبه بها الضابط لتوصيلها إلي - قنديل - بعد ضربه، بقيت كلمات واختفت أخري، وكان ينظر إلي قمة الشجرة ورأي عشا يرقد فيه طير يصفق بجناحيه منتشيا ربما بضوء القمر، تذكر الكلمات ورددها: - ده عشان تحترم أسيادك بعد كده. .. زوجة مختطف - قنديل - عاهرة خائنة فالبعد خلف الأسوار أدي به إلي الاحساس بالعجز وجعل زوجة أبوكف ترتمي في أحضان رجل آخر، فالاحساس بالعجز بصفة عامة، والجنس بصفة خاصة يظل هاجسا يؤرق أذيال النظام ويؤجج هذا العجز الانبطاح في مواجهة إملاءات فوقية لا يستطيعون التمرد عليها، فالرائد الذي أمر أبوكف بالاعتداء علي الصحفي الكبير يصطحب العاهرات إلي منزله ويروي الحارس أنه كان يوصل بعض المشتريات إلي منزل الرائد، وفي كل مرة كان يري امرأة عجوز تنظف البيت ويعطيها ما يحمله ويمضي حتي فتحت له فتاة في العشرينيات ويروي الحارس: ما رأيته جعلني أتراجع خطوة وأقف خارجا، كانت الفتاة ترتدي سترة بيجامة رجالي كبيرة عليها، ولا شيء آخر، والسيجارة مشتعلة في يدها، خفضت بصري وتوقفت عيناي علي فخذيها البضين، وبالتأكيد يقصد البساطي صغار الضباط الفاسدين حتي في أنظار العاهرات. - طيب اقعد يا حارس - ضحكت - أعمل لك شاي؟ - سيادة الرائد منتظرني - هو رائد؟ افتكرته حاجة أكبر من كده.. دقيقة أعمل لك الشاي، وموش حاأقول له إنك شربت شاي . - السواق تحت يا أفندم مستني - هو فيه سواق كمان.. لا مقدرش علي اثنين، وانفجرت ضاحكة ورمت برأسها للوراء، سترة البيجامة بدون ياقة كشفت عن جانب من كتفها وصدرها الذي بدت فوقه خدوش رفيعة تمتد نحو رقبتها. .. «أبوكف» نفسه يرتكب جريمة، بمحض الصدفة فبعد أن اعتدي بالضرب علي الصحفي أراد الذهاب إلي منزله، ورؤية زوجته، مني نفسه بلحظات سعادة يقضيها بين أحضانها قبل أن يتسلل إلي السجن مرة أخري، وعندما دلف من باب الشقة بعد أن عالجه بسلك رفيع في جيبه - كعادة اللصوص - فوجئ برجل غريب يرقد في سريره، وفي سرد رائع يصف البساطي اللحظة الصادمة، وجه غير غريب، وأين رآه؟ كان قاعدا علي حافة الفراش ينظر إلي الوجه وهو يسأل نفسه من الجيران؟! في مسجد؟ سوبر ماركت؟ وأطبق بإحدي يديه علي رقبة الرجل والأخري فوق فمه، ارتفع جسده ثم سقط عيناه جاحظتان مرعوبتان، ويداه تلوحان، أجهز «أبوكف» علي الرجل، بحث عن زوجته ليقتلها، ربما مختبئة علي السلم صعد ثلاث أو أربع درجات ولمح باب الشقة يغلق، ارتفع صراخها اندفع يهبط السلم، وانطلق بالتاكسي . عملية الاعتداء القذرة وصلت أصداؤها إلي قيادات الداخلية، وبلغت الوقاحة بضباط المعتقل إلي أنهم نسبوا الواقعة إلي أنفسهم، أخبار وصلت الصبح من الإدارة يظهر أنهم هناك أخذوا لنفسهم عملية الصحفي اللي حكيت لي عنها، وجاءهم كلام شكر كبير من فوق، وترقية ثلاثة منهم - حايعملوا حفلة بالمناسبة دي يحضرها الرتب الكبيرة بس، ومنهم عقيد في المعتقل، الحسنة الوحيدة التي نالها أبوكف هو تستر قيادات السجن عليه في قضية القتل، نفي المأمور بشدة أن يكون أبوكف هو القاتل مؤكدا أنه لم يغادر السجن لحظة واحدة، ولا رأي اسفلت الشارع منذ دخله، واسمه موجود في جميع كشوف التمام، وسأله المحرر عن سلوكه؟ قال: إنه مسجون هادئ لم تصدر في حقه مخالفة واحدة حتي الآن.. يعني ملفه نظيف!!