تنظر الجماعة الثقافية المصرية بارتياح بالغ للتوقيع مؤخرا على اتفاقيات مشروع إنشاء المحطة الكهرونووية بمنطقة الضبعة بما ينطوي عليه هذا المشروع من أبعاد سلمية متعددة في خدمة التقدم ومن بينها البعد المعرفي. فمشروع المحطة الكهرونووية في الضبعة التي ستضم أربعة مفاعلات نووية من الجيل الثالث المطور بطاقة إنتاجية تبلغ 1200 ميجا وات لكل مفاعل ينطوي على فرصة كبيرة لدعم القدرات المعرفية المصرية في مجال الاستخدامات السلمية للطاقة النووية. وكان الرئيس عبد الفتاح السيسي قد وصف التوقيع على اتفاقيات إنشاء هذه المحطة النووية بالتعاون مع الجانب الروسي في ظل الظروف الصعبة التي تشهدها المنطقة والعالم بأسره بأنها "تبعث رسالة أمل وعمل وسلام وتفاؤل إلى مصر والعالم" ، لافتا إلى أن "القدرة الحقيقية للأمم تقاس بالعلم والمعرفة والعمل والصبر". وقد يكون من الدال في هذا السياق ملاحظة أن التوقيع على إنشاء المحطة الكهرونووية في منطقة الضبعة بما تنطوي عليه من أبعاد معرفية جاء بصورة تكاد تتزامن مع حدث أخر له دلالاته العميقة على صعيد دعم بناء المجتمع المعرفي في مصر وهو إطلاق رئاسة الجمهورية مشروع "بنك المعرفة المصري" لإتاحة العلوم والمعارف الإنسانية بصورة ميسرة لكل مواطن مصري. وكان الدكتور طارق شوقي أمين عام المجالس التخصصية التابعة لرئاسة الجمهورية ورئيس المجلس التخصصي للتعليم والبحث العلمي قد وصف بنك المعرفة بأنه "أكبر مشروع يقوم به المجلس التخصصي للتعليم والبحث العلمي منذ تأسيسه كما يعد مشروعا غير تقليدي" ، موضحا أنه تم عقد شراكة كبريات دور النشر في مختلف أنحاء العالم بهدف "استخدام المحتوى وإتاحته ل90 مليون مصري ويضم باقة معرفية لمحتوى علمي قيم يصعب الحصول عليه بالطرق التقليدية". وفي تصريحات صحفية قال الدكتور وليد زيدان نائب رئيس هيئة الرقابة النووية والإشعاعية إن هذا المشروع النووي السلمي يتيح تدريب وتأهيل الكوادر المصرية بما يؤدي لتوطين ونقل التكنولوجيا النووية فيما وصفت الدكتورة هناء ابو جبل رئيس قسم الهندسة النووية والإشعاعية بكلية الهندسة في جامعة الإسكندرية مفاعلات الجيل الثالث بأنها "احدث ما توصلت له تكنولوجيا المفاعلات النووية". وبدأ مشروع الطاقة النووية السلمية في مصر عام 1955 عندما وقع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر " اتفاقية الذرة من اجل السلام" مع القيادة السوفييتية حينئذ بغرض التعاون في المجال النووي السلمي لكن المشروع بقى في إطار الحلم دون أن يتحول لواقع ملموس . وهكذا يشير مثقفون مصريون - كما يتجلى في طروحات وأراء عديدة - لمشروع المحطة الكهرونووية بالضبعة لرمزية ومعنى القرار بوصفه تحقيقا لحلم كبير لطالما داعب نفوس المصريين على مدى اكثر من نصف قرن فيما من المقرر الانتهاء من إنشاء أول مفاعلين بالمحطة في غضون تسع سنوات من بدء التنفيذ ووفقا لأعلى معايير الجودة ومعدلات الآمان البيئي والنووي. وقال الكاتب والمعلق الدكتور أسامة الغزالي حرب " اعتقد أن الغالبية العظمى من المصريين شاركوني الشعور بالأمل والتفاؤل والارتياح ونحن نشهد على شاشة التلفزيون حفل توقيع اتفاقية إنشاء محطة الضبعة النووية بين مصر وروسيا". وجاء التوقيع بين الجانبين المصري والروسي على الاتفاقية الخاصة بانشاء هذه المحطة الكهرونووية دالا على أن الإرهاب لن يكون بمقدوره أبدا تحقيق أهدافه التآمرية في وقف مسيرة التنمية وتعطيل أوجه الحياة الطبيعية بمصر التي يطمح شعبها لصنع غد افضل. وكان الرئيس عبد الفتاح السيسي قد شدد على "الطابع السلمي الخالص" للبرنامج النووي المصري ، مؤكدا التزام مصر القاطع والكامل باتفاقية منع الانتشار النووي "وهو موقف ثابت ولن يتغير". وتتفق كثير من الطروحات وأراء المعلقين في الصحف ووسائل الإعلام المصرية على أن قرار أنشاء محطة الضبعة للطاقة النووية هو "قرار استراتيجي تاريخي" لحل أزمة الطاقة ودفع عملية التصنيع ومسارات التنمية بقوة فيما تعيد بعضها للأذهان اسباب توقف البرنامج النووي السلمي المصري الذي كان قد بدأ في خمسينيات القرن العشرين. وواقع الحال أن هذا البرنامج النووي السلمي توقف بعد عدوان اسرائيل في حرب الخامس من يونيو عام 1967 فيما يذهب بعض المحللين إلى خطأ القرار ، معتبرين أنه اهدر حينئذ فرصة تاريخية للتقدم ويبدو أن هذه المسألة فى حاجة لجهود باحثين ومؤرخين جادين لفك طلاسمها لأن المنطق يقول إن مصر كانت بحاجة لمواصلة برنامجها النووي السلمي بعد حرب الخامس من يونيو لا العكس كما أن سعيها فى هذا الاتجاه السلمي كان مبررا تماما لخدمة أغراض التنمية فيما كان العالم يدرك تماما أن الطرف الآخر في الصراع يمتلك برنامجا نوويا أبعد ما يكون عن الأغراض السلمية !. وكان قسم الهندسة النووية بكلية الهندسة في جامعة الإسكندرية قد أسس عام 1963 لتخريج مهندسين ذوي دراية بتصميم وتنفيذ وتشغيل محطات القوى النووية في إطار البرنامج النووي السلمي المصري ، وجرى تغيير اسم هذا القسم في عام 2003 إلى "قسم الهندسة النووية والإشعاعية" وهو القسم الوحيد المتخصص في هذا المجال على مستوى الجامعات المصرية. وبعيدا عن الجدل حول أسباب توقف البرنامج النووي السلمي لمصر لسنوات طويلة فإن معنى "اللحظة التاريخية" يتجسد في استئناف هذا البرنامج السلمي في مواجهة تحديات التنمية وضرورة تنويع مصادر الطاقة فيما تفيد تقديرات معلنة أن نصيب الطاقة النووية ضمن حزمة مصادر الطاقة في دول الشمال المتقدم تضاعف لنحو ثماني مرات خلال العقود الأربعة الأخيرة وتصل هذه النسبة في بلد كفرنسا الى 77 في المائة. وحسب بيانات معلنة للوكالة الدولية للطاقة الذرية فإن عدد المفاعلات النووية في العالم التي تستخدم لتوليد الكهرباء يبلغ 438 مفاعلا تتوزع على 32 دولة من بينها 99 مفاعلا في الولاياتالمتحدة وحدها فيما يجري إنشاء 70 مفاعلا جديدا في 15 دولة ومن بينها الصين التي تسعى لبناء 26 مفاعلا جديدا لتضاف الى 23 مفاعلا نوويا تعمل بالفعل. ويبلغ عدد المفاعلات النووية العاملة في روسيا 34 مفاعلا نوويا وتقوم بانشاء تسعة مفاعلات جديدة في أراضيها فان هناك اتفاقا بين الأصوات الثقافية في مصر على أن اختيار العرض الروسي بين عروض متعددة لإقامة المحطة الكهرونووية في الضبعة يعبر عن علاقات تاريخية راسخة وصامدة بين البلدين الصديقين في مواجهة المحن والمتغيرات والأزمات الطارئة كما أن كلا البلدين طرف في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية كما لاحظ الدكتور وليد زيدان. ويعيد هذا الاختيار للأذهان الدور البناء لروسيا في إقامة مشاريع كبرى عززت التنمية بأرض الكنانة وفي طليعتها السد العالي بكل ما يشكله هذا الدور في الذاكرة الوطنية المصرية مؤسسا لقاعدة وخلفيات تاريخية لعلاقات تمثل نموذجا يحتذى بين الشعوب فيما يحق وصف مشروع إنشاء المحطة الكهرونووية الذي ستسهم فيه شركات مصرية بنسبة تصل الى 20 في المائة "بالصرح الجديد للصداقة المصرية-الروسية". وبعد حادث سقوط طائرة الركاب الروسية في سيناء كان الرئيس عبد الفتاح السيسي قد اكد على أن شعب مصر يقدر شواغل الشعب الروسي ومسؤولية القيادة الروسية في تأمين مواطنيها مشددا في الوقت ذاته على أن مصر اتخذت حزمة من الإجراءات الأمنية المشددة في كل مطاراتها ولن تترك اي ثغرات يمكن أن تسبب مصدرا للقلق لأي طرف. وأشادت الكاتبة والأديبة سكينة فؤاد بالدور الروسي لإحياء المشروع النووي السلمي المصري معيدة للأذهان الدعم الكبير من جانب روسيا لمصر بعد ثورة 30 يونيو 2013 وحرصها على استقلال وسيادة القرار المصري. وأوضخ الدكتور اسأمه الغزالي حرب أن حفل توقيع اتفاقية إنشاء محطة الضبعة النووية شكل بالنسبة له "لحظة مفعمة بكثير من المشاعر والعواطف" لسببين الأول : أنها أتت عقب محنة سقوط طائرة الركاب الروسية في سيناء بثلاثة أسابيع فقط ، والثاني : وهو سبب عاطفي ونفسي يتمثل في انه ينتمي الى الجيل الذي شهد في صباه وشبابه الباكر ملحمة أنشاء السد العالي بالتعاون بين مصر والاتحاد السوفييتي. ويقول أسامة الغزالي حرب اننا نشرع في بناء المحطة النووية في اليوبيل الذهبي لإنشاء السد العالي سعيا الى تحقيق نفس الهدف: اي توفير الطاقة الكهربائية فان لسان حال كل مصري يقول :"لن نستسلم للظلام وحلمنا المضيء بالمعرفة والأمل والعمل اكبر واقوي من كل المؤامرات الظلامية" !.