تبدو القاهرة هذه الأيام كأنها برج بابل، كلام بكل اللغات، كلام بلغة سعودية، وكلام بلغة أمريكية، ومليونيات ضد مليونيات، وعك سياسي رفيع المستوي، عبث ظاهر دفع إليه سيناريو المجلس العسكري للمرحلة الانتقالية، وإيحاء بصدام في العناوين الخطأ، وكأن مصر منقسمة بين دولة مدنية ودولة إسلامية!، كأن مصر تكتشف إسلامها الآن، أو كأن النخبة المصرية لم تعرف حرفا من الدستور طوال 150 سنة خلت، كأن كل هذا التراكم ذهب بددا، وكأن عاقلا في مصر يختلف علي مكانة الشريعة في الدستور، أو علي الطابع المدني للدولة، أو علي بديهية كون الأمة مصدرا للسلطات في أي نظام ديمقراطي. حرص مشبوه علي افتعال خلاف فيما لاخلاف فيه، وإغراقنا في نوبات من الجدال الفارغ، وتبادل التهديدات، وكأننا في حرب أهلية، بينما الحرب الحقيقية جارية في مصر كلها، حرب البلطجة المنفلتة لتصفية الثورة المقيدة، وحرب اختراق الساحة المصرية بحملات تمويل وغسيل أموال وأعمال مخابرات من كل صنف ولون، فثمة حرص علي الإلهاء، يجري بالقصد أو بدونه، حرص علي تزوير الرأي العام، وكأن المصري لايقابل المصري هذه الأيام، لكي يسأل عن الصحة والأحوال، بل لكي يسأل عن الرأي في الشريعة والدولة المدنية، أو الرأي في الأفندي فلان أو في الشيخ علان، بينما لاشيء من هذا كله يجري إلا علي شاشات الفضائيات، فالمصريون مشغولون بما هو أهم، مشغولون بالكلام عن الأمن الذي يفتقدونه، وعن محاكمات عصابة مبارك، وعن البلطجة التي تذبح وتسرق، وعن لقمة العيش الشحيحة، وعن فرصة العمل الغائبة، وعن الفقر والبطالة والعنوسة، وعن انحطاط بلدنا،وبؤس أحواله في الزراعة والصناعة والتكنولوجيا، وعن غيابنا المزري في التأثير علي ما يجري حولنا، فلا تكاد تسمع صوتا لمصر بصدد ما يجري لثورة سوريا،ولا تكاد تلمس أثرا لمصر علي حدودنا الغربية في ثورة ليبيا، فالدنيا الحية تنهض لمصالحها وغاياتها، بينما نحن مشغولون، أوقل إنه يفرض علينا الانشغال، إما بحديث الأخوة السلفيين أو بفذلكات الإخوة العلمانيين. هل يجري ذلك كله عفوا؟، ربما، وربما لا، المهم أن المحصلة واحدة،وأن أحدا لايلتفت، أو لايريد الالتفات من أصله إلي الحقيقة الكبري، وهي أن مصر شهدت ثورة كبري، والثورات تحرر الأوطان والشعوب، ومصر محصورة في قفص احتلال سياسي أمريكي، وتحت حد هيمنة السلاح الإسرائيلي، ولا تكاد تجد أحدا بين هؤلاء الإسلاميين العتاة، ولابين العلمانيين الثقات، لاتكاد تجد أحدا يلتفت إلي حقيقة كون مصر بلدا محتلا لايزال، بلداً فقد استقلاله الوطني من زمان، وقد يكون الكلام عن الدستور وصياغاته مهما، وليست هذه هي المشكلة في ذاتها، بل المشكلة في فك الصلة بين الاستقلال والدستور، فلاقيمة لحرية مواطن في وطن غير حر،ومصركبلد لم تتحقق حريته إلي الآن، وقد تجري الانتخابات تلو الانتخابات، وتؤلف الحكومات إثر الحكومات، ونبقي كما نحن، مجرد ناس تعيش في جغرافيا تائهة، لاتعرف حدود التزامها التاريخي، ولا دورها في العالمين، مجرد ناس كالفراخ نعيش في قفص استراتيجي، نتصايح ونتصادم في الظلام، ونستعيد قطعا من تاريخنا المنهك نفسه، نتحدث عن حريات للناس دون اقتران بحريات الأوطان، وتكون النتيجة نفسها كما كانت، مجرد ديمقراطية إجراءات بلا مضمون اجتماعي أو وطني يتحقق، والكارثة- للأسف ممكنة الحدوث، فثمة حرص مريب من الأطراف كلها علي تجنب قضية مصر الوطنية، فلا المجلس العسكري يفتح فمه، ولا حكومته بالطبع، ولا الإسلاميون ينطقون، ولا العلمانيون والمتأمركون من باب أولي، وكأنهم يتنازعون -فقط- علي ديمقراطية ترفع العلم السعودي، أو علي ديمقراطية ترضي العم سام،وكلاهما- في المحصلة- نسخة طبق الأصل. نعم، لا أحد يتحدث عن أولوية استعادة استقلال مصر الوطني، ولا عن كون القضية الوطنية فريضة ديمقراطية، وما من تفسير للصمت إلا واحد من اثنين: فإما أن البعض يري أن مصر بألف خير وطني، وأنها مستقلة جدا وتمام التمام، وإما أن البعض- الآخر- لايري ضيرا مما نحن فيه، ويرضي بحكم الزمان فينا، وبتحولنا إلي مستعمرة أمريكية، وبقيود نزع السلاح عن أراضينا في سيناء، ويؤجل مهمة تحرير مصر إلي أجيال تأتي من بعدنا، وجهة النظر الأولي لاتستحق نقاشا، وربما تستحق الرمي - مع أصحابها- في أقرب مقلب زبالة، ووجهة النظر الثانية تستحق التوقف، خاصة أن مواريثها ثقيلة في التاريخ المصري، ففي فترة الاحتلال البريطاني الطويلة، وقد استمرت علي مدي 72 سنة، وبصور مختلفة، احتمل بعضها ظهورا في صورة الاستقلال الاسمي، وتفرغ غالب النخب المصرية لصراع فراخ ديمقراطي، اتصلت مراحله حتي زمن ثورة 1952،ولم يحقق ديمقراطية يعتد بها،ولاحرر شبر أرض، ولابني نهضة زراعة، ولاتنمية صناعة وتكنولوجيا، وترك مصر مجرد مستعمرة علي باب الله، وهو ما كان سببا في غضب ظاهر علي الديمقراطية العاجزة، والتركيز علي أولويات الاستقلال الوطني والتنمية الصناعية والنهضة الكبري، ثم حدث الانقلاب علي النهضة بعد حرب 1973، وعدنا إلي القيد من جديد، وكان الأوان بعد انتفاضة يناير 1977، ذهب السادات إلي القدس،وذهبت مصر إلي كامب ديفيد، وكانت معاهدة العار التي أورثتنا العجز، ثم جاءت المعونة الأمريكية الضامنة لمذلتنا، وأحكمت القيد، وانتقلنا من نزع إلي نزع، من نزع سيادة السلاح علي جبهة سيناء إلي نزع سيادة القرار في القاهرة، وجري استبدال دار السفارة الأمريكية بدار المندوب السامي البريطاني القديم، وانتهت مصر إلي بلد في الجراج الأمريكي- الإسرائيلي. ألف باء الخبرة التاريخية تقول التالي بوضوح، وهو أن الاستقلال الوطني والديمقراطية صنوان لايفترقان، وأن صلة العروة الوثقي ظاهرة بين حرية الوطن وحرية المواطن، وأن كل سعي آخر هو حرث في البحر، وأخشي أننا نحرث في البحر الآن، ونضيع في المتاهة، بل في المستنقعات، وندور ونلف في حلقات مفرغة، ونمشي في الحذاء نفسه،ودون تقدم حقيقي يضاف، نعم توافرت حريات عامة أوسع، وحريات كلام بالذات، لكنها حريات المحبوسين في القفص الأمريكي- الإسرائيلي نفسه، وهذه هي المحنة التي يتواطأ عليها الكل الآن، محنة مصر المحتلة التي لايتحدث أحد عن تحريرها، وتأمل - مثلا- كل نقاشات التيارات السياسية والفكرية، وتأمل - مثلا-كل دعايات المرشحين المحتملين للرئاسة، وسواء كانوا من حملة لواء الشريعة أو من الزاعقين بشعار الدولة المدنية، تأمل صخبهم منزوع الدسم الوطني، فلن تجد في صخب هؤلاء جميعا حرفا عن تحرير مصر، ولا عن تصفية جهاز المعونة الأمريكية، ولا عن خفض الحجم المهول للسفارة الأمريكية في مصر، والممتدة في تخصصاتها وشبكاتها إلي كل شيء في مصر، وتعامل أمنيا كأنها مقر قيادة الجيش، وتدوس أحكام القضاء بطبائع الباب العالي، كل ذلك يجري،بينما لا أحد يطلب ماهو بديهي في عرف الاستقلال والكرامة الوطنية، وهو المساواة العددية بين ممثلينا في واشنطن وممثليهم في القاهرة، والسبب مفهوم، وفيه اعتراف ضمني بسيادة الأمريكيين في بلادنا، ومع سيادة الأمريكيين ترد حصانة الإسرائيليين، فلا أحد يطلب طرد السفير الإسرائيلي من القاهرة، ولا وقف تصدير الغاز، ولا إلغاء اتفاق الكويز، ولا إلغاء القيود المترتبة علي ما يسمي ب «معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية»، وقد انتهت إلي تفريغ سيناء من الوجود الأمني المصري بالكامل، فلا توجد غير فرقة مشاة ميكانيكية مصرية واحدة إلي شرق قناة السويس، وسيناء - إلي عمق 150 كيلو مترا- منزوعة السلاح المصري بالكامل، والنتيجة: مخاطر فصل سيناء بالكامل عن مصر. نعم، قضية مصر الوطنية لم تحسم بعد، فلا تنازعوا وتفشلوا وتذهب ريحكم، وحرروا مصر أولا، وانتبهوا للحقيقة المرة،فمصر لاتزال بلدا محتلا، ومبارك لم يكن سوي عميل للاحتلال الباقي. نشر فى 15 أغسطس 2011