هل يصح القول إن الأحداث التى تمر بالمنطقة لم تعد تثير اهتماما خاصا فى الدول العربية مهما كانت تطوراتها، وأن الحديث عن السياسة الأمريكية والممارسات الإسرائيلية، ومكامن الفرقة العربية، وأهداف الدور الإيرانى، ومسار التحالفات القلقة بالمنطقة، أصبح حديثا مكررا لم يعد يضيف جديدا على الساحة. وأن الأحداث المستجدة على خطورتها لم تعد تمثل عنصرا ضاغطا لتغيير المشهد العربى الساكن، أو دافعا لتحريك شعرة فى تفاعلات السياسة العربية؟ وهل يعتبر من قبيل الحقيقة القول بأن الشعوب العربية قد لحقت بحكوماتها فى الانكفاء على مشكلاتها الداخلية وفقد الاهتمام بما يتم خارج حدودها بحيث لم يعد يستثير غضبها، أو يستوجب رد فعلها ما يجرى من محاولات لتجزئة المنطقة، وترتيب الأوضاع على ساحتها على حساب المصالح العربية، واستبدال التهديد الإسرائيلى بالإيرانى أو حساب إسرائيل ضمن معسكر الاعتدال العربى، أو تصاعد احتمالات توجيه ضربة عسكرية إسرائيلية لإيران، أو وضع المنطقة تحت مظلة دفاعية أمريكية، تحت ذريعة حمايتها من التهديد النووى الإيرانى، فى إطار خطة سلام أمريكية يتوازى فيها إعلان تجميد مؤقت للمستوطنات الإسرائيلية مع التزام عربى بإجراء تطبيع فعلى مع إسرائيل فى مجالات حيوية بالنسبة لأمنها ومصالحها. ولعل ما يستلفت النظر، ويثير القلق فى هذه الشأن أن هذه التطورات تتم فى ظروف سياسية معقدة ووسط تفاعلات داخلية وخارجية تظهر مفاعيلها فى المعطيات التالية: أولا: أن التطورات الخطيرة التى تحيط القضايا العربية فى المنطقة لم تستطع أن تصل إلى قلب هذه القضايا أو أن تؤثر فى مواقف أطرافها الرئيسية، فضلا عن أن فشل السياسة الأمريكية تجاه بعض هذه القضايا لم يؤد بالضرورة لنجاح السياسات المعارضة لها. ولذلك تبدو هذه القضايا وكأنها «مشتعلة» بتأثير العوامل الخارجية المتغيرة، «وساكنة» بعناصرها الداخلية الثابتة. ثانيا: إن ممارسات التقسيم والتجزئة التى تجرى فى المنطقة قد تخطت مرحلة النوايا وصارت تطرح أمرا واقعا على الأرض العربية. وإذا كان حلم التقسيم وتفتيت الكيانات العربية الكبرى يمثل هدفا مستمرا للقوى الدولية من حيث المبدأ، إلا أن أخطاء وخطايا بعض السياسات المحلية كثيرا ما تلعب الدور الرئيس فى الانقسامات الداخلية والحروب الأهلية. فضلا عن طموح بعض القوى الطائفية والعرقية الراغبة فى الانفصال عن وطنها الأم وإقامة كيانات مستقلة مهما كان افتقادها لمقوماتها. ومع ذلك فإن السياسات العربية مازالت تغض النظر عن خطورتها، وتتجاهل وجودها طالما أنها لم تطرق أبوابها، بل إن بعض هذه السياسات قد تلجأ أحيانا إلى محاولة استثمارها السياسى والإعلامى لتحقيق أهدافها الذاتية. ثالثا: إن المواقف الأمريكية والأوروبية وبعض المواقف العربية من البرنامج النووى الإيرانى تعكس ازدواجا سافرا فى المعايير. وذلك فى ضوء تجاهلها لبرنامج إسرائيل النووى، واتخاذها لمواقف القبول والتفهم لبرامج نووية أخرى لبعض الدول «الصديقة». وتكمن المفارقة فى هذا الشأن فيما يظهر من افتقاد السياسات العربية إلى رؤية سياسية واضحة تمكنها من النظر إلى الموضوع من منظور مختلف من حيث الحرص على «الربط السياسى» بين البرنامجين الإيرانى والإسرائيلى والإصرار على التعامل معهما فى نفس الإطار. وعدم السماح بإثارة ضجة سياسية وإعلامية حول أحدهما واتخاذ موقف الصمت والغموض من الآخر. إلا أن تقدير السياسات العربية من أن البرنامج النووى الإيرانى يشكل عليها خطرا يفوق الخطر النووى الإسرائيلى، وحرص بعضها الآخر على ربط سياساتها بالولاياتالمتحدة واستعدادها لمسايرة مواقفها فى المنطقة لأسباب داخلية، قد دفع معظم السياسات العربية إلى قبول إسقاط وفض الارتباط السياسى بين البرنامجين، وهو الأمر الذى مكن إسرائيل من التجرؤ فى معارضة البرنامج النووى الإيرانى رغم تملكها لقدرات نووية تفوقه قوة وتدميرا. ولعل ما شجع إسرائيل على أن ترفض بشكل قاطع أن يشكل البرنامج الإيرانى نوعا من الردع لتفوقها النووى، أو أن يساهم فى تعديل بعض أوجه الخلل فى ميزان القوى المائل تماما لمصلحتها فى المنطقة، هو ما يظهر فى موافقة بعض الدول العربية على هذا الوضع واستعدادها للتعايش معه فضلا عما يبدو من عزوف عربى عن إبقاء قنوات الحوار مفتوحة مع إيران. رابعا: أن ما تشهده المنطقة حاليا من استقطاب بين الولاياتالمتحدةوإيران، والذى يعكس نفسه فى جميع التطورات التى تشهدها القضايا الإستراتجية العربية قد فرضت على السياستين الأمريكيةوالإيرانية الاعتراف بأهمية «الترابط» بين هذه القضايا، وهو الأمر الذى ظهرت دلالاته فى رغبة الولاياتالمتحدة فى تحقيق تقدم فى مجال القضية الفلسطينية فى وقت متزامن مع التعامل مع المشكلة النووية الإيرانية فضلا عن رغبتها فى طرح خطة للسلام فى المنطقة تغطى جميع القضايا السياسية والأمنية على ساحتها. وذلك فى الوقت الذى تحاول فيه إيران مواجهة هذه السياسة عبر «مقاربة شاملة» لقضايا المنطقة بإصرارها على الاحتفاظ بأوراقها المؤثرة عليها، وبتحويل الصراعات فى المنطقة من قومية إلى دينية وحضارية حتى يكون لها دور فاعل فيها، بالإضافة إلى جهودها التى تسابق الزمن للمضى قدما فى برنامجا النووى. وإذا كان من المفترض والمتوقع أن تعمل السياسات العربية على استثمار بعض الاتجاهات الايجابية فى سياسة الإدارة الأمريكية التى تنادى بالحوار والاعتدال وأولوية الدبلوماسية على العنف، وتطرح بعض الأفكار المتقدمة فى القضية الفلسطينية، إلا أن الشاهد أن هذه السياسات قد تركت الساحة خالية ترتع فيها السياسة الإسرائيلية منفردة، واتخذت موقف الترقب انتظارا لبلورة رؤية الإدارة الأمريكية للسلام فى المنطقة دون أن تبذل جهودا للتأثير فى توجهاتها أو التخفيف من وطأة الضغوط الإسرائيلية التى نجحت فى تحويل المقترحات الأمريكية عن مسارها المعلن، فضلا عن اتجاهها لضمان اصطفاف الدول العربية وراء سياستها تجاه إيران عبر طرح ترتيبات أمنية تغطى الدول العربية «الصديقة» فى إطار دفاعى واحد مع إسرائيل. وتظهر المفارقة واضحة فيما يبدو من مباركة بعض الدول العربية للتوجهات الأمريكية رغم أنها تتخطى الاحتلال الإسرائيلي، وتعمد إلى تغيير أولويات القضية وتتجه لترتيب التزامات فورية على الجانب العربى مقابل التزامات مؤجلة ومؤقتة وغير مضمونة التنفيذ على الجانب الإسرائيلى وتعمل على التعامل مع العلاقات العربية الإسرائيلية وتسوية القضية الفلسطينية على موجتين مختلفتين. وذلك فى الوقت الذى تنبئ فيه التطورات الفلسطينية باتجاه حركة فتح للمشاركة منفردة فى «مزاد» السلام الأمريكى، واتجاه حركة حماس للتمسك بنديتها فى التعامل وشروطها فى التسوية، مع تمترس كل منهما فى مواقعه بالضفة والقطاع، بما يحقق لإسرائيل أهدافها بعرقلة جهود التسوية وتسريع وتيرة التهويد والاستيطان ومن هنا تكمن أسباب تصاعد الإحباط والقنوط لدى الشعوب العربية، وإحساسها بأن السياسات العربية تضع رغباتها وطموحاتها خارج حساباتها ما أفقدها الاهتمام بما يدور خارج حدودها، حيث لم تعد الأحداث الوطنية والتحديات القومية تحرك حميتها، أو تثير غيرتها، خاصة فى ضوء شغلها بحملات تغييب الوعى وتسطيح العقل، وإغراقها فى أتون الأزمات المعيشية المتعثرة، والقضايا الدينية المثيرة للخلاف.