البسطاء أو الساذجون فقط هم الذين يعتقدون أن انعقاد مؤتمر ما أو جَلْسَة لمؤتمر ما سوف تؤدى حتما إلى الوصول لنتائج أو حلول للمشكلة قيد البحث، أو أن المشكلة قد شارفت على الحل من خلال الإعلان «عن قرب وقف إطلاق النار». من الواضح أن المقومات اللازمة لتسوية الصراع فى سوريا ليست جاهزة بَعْدْ وهى ما تزال قيد الإعداد. إن انعقاد مؤتمر جنيف مهما كان رقمه سواء 3 أو 4 مثلا لا يعنى أن الوضع قد أصبح جاهزا للتسوية بقدر ما قد يهدف إلى إعطاء الانطباع بأن الأمور فى طريقها إلى الحل، وذلك كوسيلة لتخفيف الاحتقان والتوتر وإبقاء جذوة الأمل مشتعلة، منعا لانفجار الأمور بما لا ينسجم مع مصالح القوتين الأكثر تأثيرا فى الوضع السورى، وهما أمريكاوروسيا. يُخطئ من يعتقد بأن الروس قد دخلوا سوريا رغما عن أنف أمريكا أو أنهم دخلوا إلى سوريا لأسباب عقائدية أو أخلاقية، ويخطئ أكثر كل من يفكر بأن روسيا هى الاتحاد السوفيتى السابق بسياساته وأهدافه العقائدية، كما يخطئ من يعتبر ما حصل فى سوريا بأنه انتصار لروسيا وهزيمة لأمريكا، لأن الحقيقة هى أن ما حصل هو هزيمة لسوريا وانتصار للآخرين. فدخول روسيالسوريا جاء بالاتفاق والتنسيق الكاملين مع أمريكا. وهكذا فإن أبعاد هذا التدخل وحدوده متفق عليها مسبقا بين روسياوأمريكا، وما يجرى الآن هو فى واقعه عملية إخراج سلمى لما هو متفق عليه أو شبه متفق عليه، بما فى ذلك أى خلافات علنية قد تطفو على السطح. *** الأساس فى الاتفاق الروسى – الأمريكى هو وصول الوضع فى سوريا عشية التدخل الروسى إلى احتمال يشير لحتمية الهيمنة الإيرانية على أجزاء واسعة من العراقوسوريا سواء مباشرة أو بواسطة أحزاب وتنظيمات تابعة لها مثل حزب الدعوة فى العراق وحزب الله اللبنانى فى سوريا، بالإضافة إلى هيمنة تنظيم داعش أيضا على أجزاء واسعة من سورياوالعراق. وهذا يعنى أن الخيار أصبح محصورا أمام أمريكا فى قوتين لا تستطيع قبول أى منهما أو السماح لأى منهما، بأن يصبح قوة تغيير إقليمى تشمل اثنتين من أهم دول المنطقة وهما العراقوسوريا. وهكذا تم فتح الطريق أمام اتفاق أمريكى – روسى، يسمح بتدخل روسى محسوب فى سوريا يستجيب للتطلعات الروسية الاستراتيجية فى الإطلالة على المياه الدافئة من جهة، ويضع حدا للتمدد الداعشى فى سوريا حتى ولو أدى ذلك إلى تقسيمها، وهو فى نفس الوقت أمرا يستجيب للرغبة الأمريكية فى وضع حد لامتداد الهيمنة الإيرانية فى كل من سورياوالعراق وبشكل يُبعد إيران عن الحدود الإسرائيلية، بشكل واضح وحاسم. وهكذا التقت المصالح الأمريكية والروسية، وإن كان ذلك على حساب الوطن السورى ومصالِحِهِ وأصبح مصير سوريا قرارا بيد الآخرين، ونظام الحكم السورى أصبح بالتالى واجهة لإضفاء شرعية على الوجود العسكرى الروسى ومخططاته. كان لابد من وجود تنظيم مثل داعش حتى تستطيع أمريكا وحلفاؤها إيجاد العذر لخلق حلف عسكرى إقليمى، للتدخل فى شئون دول المنطقة تحت شعار «مكافحة الإرهاب». وكان لابد من استمرار وجود تنظيم الدولة «داعش» حتى تستطيع الدول الكبرى خصوصا أمريكاوروسيا، أن تفعل ما تفعله الآن فى سوريا وأن يبقى الأسد فى الواجهة السياسية كما تريد روسيا تحت ستار مكافحة المد الداعشى فى سوريا، وعلى اعتبار أن البديل الوحيد لنظام الأسد فيما لو تم القضاء عليه هو نظام داعش! معادلات محسوبة أساسها وجود تنظيم داعش واستمراره كعذر وغطاء لتدخل الآخرين فى شئون المنطقة العربية. وهكذا فإن القضاء على داعش بشكل نهائى لم يكن يوما هدفا حقيقيا لأمريكا وحلفائها، ولكن تضخيم خَطَرِها بالقدر المطلوب لخلق حالة عامة من الخوف بين شعوب المنطقة كان هو الهدف طوال الوقت. وهذا الموقف لا يتناقض والمصالح الأمريكية التى كانت وراء تسهيل ظهور تنظيم داعش أصلا. لا أحد يريد حقيقة القضاء على تنظيم داعش بشكل نهائى وحاسم. فالجميع يتقاتلون ويتدخلون فى شئون دول المنطقة تحت عنوان محاربة الإرهاب وداعش جزء أساسى من التنظيمات المصنفة بالإرهابية، وبقاؤها يصبح بالتالى ضروريا لاستمرار معضلة الإرهاب، وهى بدورها ضرورية لتبرير سياسات التدخل العسكرى فى دول المنطقة. إذا الحديث عن ضرب الإرهاب والقضاء عليه عسكريا يصبح وسيلة للوصول لأهداف أخرى وليس هو هدفا بحد ذاته. *** إن التقاء المصالح لخدمة أهداف مختلفة أمر طبيعى. وأمريكاوروسيا تلتقى مصالحهما فى التعامل مع دول المنطقة من منظور استراتيجى شامل. وقد تختلف ولكن ليس إلى حد الدخول فى نزاع عسكرى من أجل أى طرف ثالث، ويبقى الأمر بذلك مقتصرا على النزاع السياسى. فالدول الكبرى لن تدخل فى نزاع مسلح من أجل الآخرين. والآخرون هم من يجب أن يدفعوا ضريبة الدم مع أن الفائدة تعود دوما إلى الكبار. هنالك مدارس عديدة تختلف فى تفسير أصول داعش ودورها فى المنطقة. وبغض النظر عن التفاصيل، فإن المهم هو كيف يستغل الآخرون وجود داعش لتعزيز مواقعهم ومكاسبهم سواء أكان أولئك الآخرون من خارج المنطقة مثل أمريكا والغرب وروسيا أو من داخل الإقليم مثل إيران وتركيا أو من داخل العالم العربى مثل نظام الأسد والسعودية ومصر والأردن. العنوان الكبير والذى يُجمعْ عليه الجميع هو «مكافحة الإرهاب»، ولكن المحتوى والهدف يختلفان بين طرف وآخر ولا يوجد قاسم مشترك أعظم بينهم جميعا سوى ذلك العنوان. إن استغلال نظام الأسد وروسيا لظاهرة داعش ووجودها المسلح والدموى فى سوريا كان الاستغلال الأكثر عبقرية. فنظام الأسد سَمَحَ لداعش بالتمدد فى عدة مناطق وبممارسة وحشيتها فى القتل وتدمير التراث الوطنى علنا لبث الرعب بين أبناء الشعب السورى والعالم الخارجى وحصر الخيار بالتالى أمام السوريين والعالم بينه وبين داعش فقط، وهو بذلك استثنى المعارضة باعتبارها لا شىء ووضع السوريين أمام خيار واحد من اثنين: إما النظام أو داعش ولا شىء آخر. أما روسيا، فقد نجح بوتين فى تبرير تدخله العسكرى فى سوريا أمام الشعب الروسى، باعتباره ضربة استباقية للإرهاب فى مهده قبل أن يتمكن ذلك الإرهاب من توجيه ضرباته إلى قلب روسيا فيما لو عاد العديد من عناصر داعش إلى وطنهم الشيشان وروسيا الاتحادية نفسها مع احتمال قيامهم بعمليات تخريبية. وهكذا قام بوتين بتسويق تدخله العسكرى فى سوريا أمام الشعب الروسى باعتباره إجراء فى الدفاع عن النفس وعن العمق الروسى وليس تدخلا فى الشأن السورى واحتلالا لأجزاء من سوريا. ومن هذا المنطلق، فإن إعادة تقسيم ما قسمته اتفاقيات سايكس- بيكو عقب الحرب العالمية الأولى، قد تكون الآن على طاولة المفاوضات بين الولاياتالمتحدةالأمريكيةوروسيا الاتحادية، وقد يتمخض عن ذلك وضع جديد واتفاقات كيرى لافروف جديدة كبديل عن اتفاقات سايكس- بيكو القديمة والتى شكلت الأساس للنظام السياسى العربى بعد الحرب العالمية الأولى. *** الانهيار والتغيير الحالى الآن يشمل معظم أرجاء العالم العربى من مشرقه إلى مغربه وهو غير محصور بدول اتفاقات سايكس- بيكو التى شملت أقطار الهلال الخصيب حصرا «العراقوسوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن». وهذا يعنى أن ما يجرى الآن لا علاقة له بسايكس- بيكو إلا فى حدوده الرمزية التى تؤكد قدرة الدول الكبرى على الاستمرار فى ممارسة مبدأ إعادة رسم حدود دول المنطقة، بما يناسب مصالحهم أو رؤيتهم. الحديث هنا ما زال استمرارا لمنطق القوة وحق الدول الكبرى فى فرض رؤيتهم على شعوب المنطقة، بغض النظر عن رغبات تلك الشعوب. وعلينا أن لا ننسى أن ذلك، فيما لو تم، سوف يكون فى مصلحة تلك الدول وإسرائيل التى تقف خلف معظم الأحداث الدامية فى المنطقة محتمية بسواتر مختلفة منها الأمريكى ومنها الأوروبى ومنها الروسى ومنها العربى. رأى اليوم لندن لبيب قمحاوى