تطرح وفاة محمد حسنين هيكل أسئلة كثيرة حول دور الصحفى والمثقف فى بلادنا. عاصر الرجل مرحلة طويلة من القرنين العشرين والواحد والعشرين. رئيس تحرير الأهرام التقى كبار رجال السياسة العرب والعالميين، كانوا يستشيرونه فى مصر وغيرها. رؤساء وغيرهم. عمل وزيرا. لعب دورا كبيرا مع عبدالناصر ومع أنور السادات، على اختلاف سياسة وبرنامج ورؤية كل منهما. كان فى الواجهة، لكنه دخل السجن على يد السادات. كان صحفيا وكان مثقفا وكان سياسيا. جمع المهام الثلاث فى شخصه، ونادرا ما تجتمع فى واحد. كان مراقبا للأحداث، لكنه كان من صناع الأحداث أيضا، ولو من بعيد. لعب أدوارا متناقضة أحيانا، لكنه كان كاتبا كبيرا. توافقه أو لا توافقه، لكنك لا تستطيع إلا الاعتراف بمكانته. الكاتب الذى لا يختلف مع الآخرين ليست أفكاره عظيمة القدر. على الكاتب أن يختلف مع نفسه أحيانا. لا ثبات للأفكار فى ظروف متغيرة. التغير دائم الحدوث. الدور الذى مارسه هيكل كان كبيرا لأنه كان كاتبا ومفكرا استراتيجيا فذا. لم تستطع التيارات المناقضة لموقفه الإيديولوجى والطبقى أن تنتج كاتبا بمثل مكانته وبمستوى ما كتب. فى غياب الساسة الكبار عند العرب، كان هو الكاتب الرئيس من المحيط إلى المحيط. يترك موته فراغا كبيرا يجعلنا ذلك نفكر بمكانة الكاتب فى وطننا العربى. لا يحقق الكاتب شيئا إلا بالمعرفة. كان واسع المعرفة جدا. صحيح أن وضعه المالى الشخصى سمح له بمتسع من الوقت للتفكير والاطلاع والكتابة، لكن سعة المعرفة هى الأساس. تأتى بعدها سلامة الموقف. فى وضع ملىء بالتناقضات والثورات والحروب الأهلية، إضافة إلى المؤامرات، وما يسمى المخططات الأجنبية، يحتاج المرء إلى كثير من الصلابة الأخلاقية كى يستطيع الحفاظ على سياق من المواقف الجادة. وكان هيكل كذلك. مهما قيل فيه، إلا أنه كانت لديه «رهبنة معرفية»، وهذا ما يحتاجه الكاتب العربى وغير العربى بالدرجة الأولى. المعرفة فى سبيل المعرفة، الفن فى سبيل الفن. للأسف، الوعى السائد ذرائعى، يبغى الواحد منا الفائدة المباشرة من دون أثر الفكر على المدى البعيد. يُقال إن وضع المثقف العربى الاقتصادى يجعله ذرائعى النزعة، يبتغى أجوبة مباشرة لأسئلة صغيرة. لم يكن هيكل كذلك. كان كما يجب أن يكون المثقف. لا بد من نخبة ثقافية تصوغ الوعى العام. الرأى العام لا يصنع الوعى. الثورة لا يصنعها مثقفون، يصنعها الرأى العام. تنتهى الثورة حين تقع، لأنها حدث يقع فى حينه. ما بعد الثورة لا يقل أهمية، بعدها تتصارع الأفكار. كلما استطاعت نخبة ثقافية بلورة أفكار متقدمة، كان الدور أكثر تقدما فى مواجهة الثورة المضادة التى تحاول دائما إعادة القيود، أو وضع قيود جديدة. وجدان الناس، عواطفهم، حاجاتهم، كل ذلك يحتاج إلى من يعبر عنه وأن يصوغه وأن يضعه فى برنامج عمل، أو ما يشبه ذلك. ليس للمثقف مصداقية إلا مع اتساع المعرفة. أن يعرف الواحد مجتمعه أولا، يستطيع أن يعبر عنه تعبيرا صحيحا، ثانيا. قلق المعرفة هو السبيل إلى ذلك. أن تعرف، أن تشك، أن تطرح الأسئلة. تأتى الأجوبة بناء عليه. صحيح أن الأنظمة السياسية، خاصة الاستبدادية منها، تحاصر المعرفة وتحاصر المثقفين. المثقفون الكبار يعرفون كيف يفكون الحصار. يفعلون ذلك بفضل معرفتهم لمجتمعهم وللعالم. أهدى عمانويل كانت كتابه «نقد العقل المحض» للحاكم الأمير بتوقيع «خادمك المطيع»، لكن كتابه غير طريقة التفكير البشرى. لا مبرر للمثقفين العرب أن الأنظمة العربية، وأوضاعهم الشخصية، تحاول تكبيلهم وقمعهم. ما كان الأمر إلا كذلك على مدى التاريخ. مع ذلك خرج من دياجير الظلم والقمع مفكرون كبار. لدينا، نحن العرب، الكثيرون منهم، الآن. المهم خروجهم على التفكير الذرائعى، والعقل المستريح، والأجوبة الصغرى لأسئلة صغرى. الغلطة الكبرى فى الوعى السائد، على مدى العقود الماضية، أن نخبنا الثقافية اعتبرت الفكر مسألة ناجزة وما علينا إلا الممارسة. أُهمِل النضال الفكرى لصالح النضال السياسى. تجمد الوعى لدى تيارات اليمين واليسار. منطقتنا، من المحيط إلى المحيط، محفوفة بالمخاطر الخارجية والداخلية. لا يمر يوم إلا ويتحدث المثقفون والإعلاميون عن مخططات خارجية. منذ سايكس بيكو حتى قيام إسرائيل حتى الآن، يتكرر الأمر نفسه. أساليب العمل والنضال تتكرر. كأننا محاصرون. لا نفك الحصار الخارجى إلا بفك الحصار الداخلى، بالمعرفة والوعى أولا. نحتاج إلى تطوير الفكر والوعى كى تتطور الممارسة.