والبعض يتعامل على نحو بالغ التسطيح مع حق الناس فى الاختيار الحر لمن يديرون شئون الحكم والسلطة. يغيبون الحقائق والمعلومات، ويستدعون زيفا «مقتضيات الأمن القومى» لمعارضة تمرير قانون ينظم حرية تداولها. ثم يزعقون «وشعبنا يدرك المؤامرات والأخطار والتهديدات المحيطة به، ويقف كالبنيان المرصوص فى مواجهتها». «فالشعب الواعى لا تخفى عليه خافية. يرعون منظومة إعلامية متكاملة «لغسل الأدمغة» وتزييف وعى الناس وحملهم على الاستقالة من طلب العدل والحق والحرية، بل والاعتذار عن ماضى المطالبة، ثم يزعقون «وشعبنا يدرك أن الأمن والاستقرار هما أولوياته وأولويات القيادة السياسية، ولا يتعجل لا الخبز ولا الحرية»، فالشعب الواعى لا تخفى عليه خافية. يحولون بين الناس وبين الاختيار الحر، فإما تأييد من يدير شئون الحكم والسلطة والمراوحة بين إنكار تورطهم فى مظالم وانتهاكات وبين تبريرها أو الانسحاب من المجال العام والعزوف أو مواجهة تعقب الأجهزة الأمنية. فى دنيا الحكام تمثل مفردات التأييد والإنكار والتبرير جوهر اختيارات من ينعتون بالمواطنين الشرفاء. أما العزوف، فيصنف كاستراحة مشروعة «لشرفاء غرر بهم»، لكى يستفيقوا من الأوهام التى يروجها المتآمرون والخونة، ومن ثم يعودون إلى أحضان الجموع المؤيدة التى هى الشعب، وللتعقب الأمنى وتوابعه هدف نبيل، ألا وهو تقويم «سلوك القلة المنحرفة» التى تعجز عن إدراك حتمية الامتناع عن معارضة الحكام وضرورة الاصطفاف من ورائهم كفعلين أخلاقيين ووطنيين لا بدائل لهما. ولأن الجموع المؤيدة بحسها «الوطنى الشريف» تدرك ذلك جيدا، تندفع إلى المشاركة بفاعلية فى جهود تعقب القلة المنحرفة، فالشعب الواعى لا تخفى عليه خافية. يستدعون المؤسسات الدينية ورموزها لتمرير وتبرير احتكارهم للحكم، وتسلطهم على المواطن والمجتمع، ثم يزعقون «وشعبنا أراد دوما الدولة المدنية»، وأنتظر طويلا «للفصل بين الدين والسياسة»، الذى ما كان له أن يتطور دون التخلص من الجماعات المستغلة للدين، فاستغلال الدين فى السياسة من قبل الحكام محمود، واستغلاله من قبل الإخوان وحلفائهم مذموم. والدولة المدنية، وكما تعلم الجموع المؤيدة، تصونها المؤسسات النظامية القوية وليس السياسيين كثيرى الحديث والأخطاء والتكالب على المصالح الشخصية (وكأن المؤسسات النظامية لا مصالح ومنافع ذاتية لها). فالشعب الواعى لا تخفى عليه خافية. يزعمون الانتصار للمواطنة وللمساواة الكاملة بين جميع أفراد الشعب، ويعلنون مواجهتهم للتطرف والعنف ومناهضتهم للتمييز. ثم يطلقون على الرأى العام دعاة نزع حقوق المواطنة وكل قيمة وطنية وإنسانية عن المختلفين مع الحكم، ويتركون المجال العام لسطوة نخب النفوذ والثروة وأصحاب «الصوت المرتفع» ممن يمارسون نمطا كارثيا من التمييز، التمييز ضد ضحايا المظالم والانتهاكات بإنكار الظلم الذى يقع عليهم وتبرير الانتهاكات التى تلحق بهم، بل يورطون الجموع المؤيدة معهم فى جرائم نزع الحقوق عن الهائمين بعيدا عن القطيع وجرائم التمييز ضد الضحايا، فيروجون لحتمية العقاب الجماعى لكل من «يهدد أمن واستقرار الوطن» ويستدعون «المواطنين الشرفاء» للتأييد العلنى لجرائمهم، فالشعب لا تخفى عليه خافية. يخرجون على الناس بمعسول الحديث عن احترام «الإرادة الشعبية» والتزام «اختيارات المواطن» كما يعبر عنها بحرية فى صناديق الاقتراع، بينما هم يشوهون إرادة الناس من خلال التهديد الدائم بالتعقب والعقاب ما لم تحضر الطاعة ويحضر الامتثال أو يسود العزوف الصامت، ويسفهون من الاختيار الحر للمواطن بتمكين الأجهزة الأمنية من السيطرة الكاملة على المشاهد الانتخابية وعلى تلك التى يسمونها حياة سياسية وهى ليس بها إلا الموات. يفعلون ذلك وهم يتشدقون بالجموع المؤيدة، ويتغنون بوعى الشعب الذى لا تخفى عليه خافية.