لن تبتعد عنا السلطوية الجديدة. ستواصل تهجيرنا من المجال العام. ستواصل تهديدنا المستمر بالقمع والقيود، إن نحن رفضنا الخضوع والامتثال. ستواصل تعريضنا للمظالم والانتهاكات دون تمييز، لكى تضطر ضمائرنا وعقولنا إلى إعادة اكتشاف الخوف وتقبل الصمت على غياب العدل. ستواصل تزييف وعينا، تارة عبر مكارثية الرأى الواحد والصوت الواحد، وثانية عبر هستيريا التآمر والمتآمرين التى توظف تاليا لتبرير العصف بسيادة القانون وتعطيل ضمانات التقاضى العادل وإنزال العقاب الجماعى بالمعارضين ورافضى السلطوية الجديدة، وثالثة عبر تمرير حكم الفرد بالترويج لصياغات «البطل المنقذ» المعتادة، ورابعة عبر إطلاق الوعود بالإنجازات الكبرى القادمة التى لن يقدر عليها سوى البطل المنقذ والمؤسسات النظامية المدعية احتكار حق الحديث الحصرى باسم الانضباط والفاعلية، وخامسة عبر تشويه كل ما أنتجه وينتجه المجتمع من مؤسسات وسيطة (منظمات المجتمع المدنى المستقلة هى الأكثر مركزية هنا) مهمتها هى ممارسة الرقابة والمساءلة والمحاسبة باتجاه الحاكم الفرد ومنع تغول سلطاته وصلاحياته، وسادسة عبر استخدام وسائل الإعلام العامة والخاصة التى تسيطر عليها لحصارنا بكل الصنوف الممكنة للإفك (لا يوجد تعذيب فى السجون أو أماكن الاحتجاز فى مصر) وللعبث (إصدار تقارير سجون الخدمة الفاخرة) وللجنون (المجلس الأعلى لإدارة العالم) لكى نعجز عن التفكير بحرية ونغادر دون عودة مواقع التعبير الحر عن الرأى وخانات الاختيار الحر. لن تبتعد عنا، فكلفة القمع والظلم وتزييف الوعى منظورا إليها بحسابات الحاكم الفرد والمؤسسات الأمنية والاستخباراتية التى تعمل على إخضاع المواطن والمجتمع لإرادته الانفرادية وبالتبعية لقبضتها هى أيضا لم تزل محدودة للغاية – بحساباتهم هم، وليس بحسابات المواطن الذى يجرد تدريجيا من طاقاته الخلاقة والإبداعية أو بحسابات المجتمع الذى يدمر تدريجيا سلمه الأهلى. يقبع الآلاف من المواطنات والمواطنين فى السجون وأماكن الاحتجاز بعد أن تم تجريدهم من ضمانات الحقوق والحريات وضمانات التقاضى العادل، تتراكم المظالم والانتهاكات، تتنوع شواهد الاستخدام المفرط للقوة الجبرية وشواهد تغول القبضة الأمنية والاستخباراتية قطاعات مجتمعية حيوية من الجامعات والنقابات المستقلة ومنظمات المجتمع المدنى إلى النظم التعليمية والمدرسية التى قريبا ستفتح أبوابها لاستقبال وحدات «الأمن الفكرى» التى سيعهد بها إلى من سيتشابهون حتما مع «متحولى» فرانز كافكا و«فرافير» يوسف إدريس، يتوالى «تقنين الاستثناء» والتأسيس للقمع وللتعقب وللتهديد وللخوف كحقائق الوجود الوحيدة للمواطن التى تلحقها اقتصاديا واجتماعيا حقائق الفقر والفساد وحرمان أغلبية المصريات والمصريين من نصيب عادل فى الثروة، تطغى الهستيريا على المجال العام وتغيب قيم العقل والعدل؛ وعلى الرغم من كل ذلك لا يحرك ساكنا إلا القليل من الناس وحين تطولهم القبضة الأمنية تتركهم الأغلبية الصامتة خوفا دون تضامن أو دفاع عن حقوقهم وحرياتهم أو مطالبة بجبر الضرر. لن تبتعد عنا، ولن تتوقف عن الاستعلاء على العقل والعدل وسيادة القانون أو الاستخفاف بحقوق وحريات الناس، فلا شىء يدعوها إلى ذلك وكل شىء يدعوها إلى تصعيد قمعها والتخلص من القليل المتبقى (دستوريا فقط) لمقاومة حكم الفرد. والسلطويات، قديمها وجديدها، لا تتنازل عن حكمها المطلق أو عن تغول صلاحياتها واستتباعها للمواطن والمجتمع طالما ظلت كلفة القمع محدودة. قد يكون الحل، إذن، هو أن نبتعد نحن عن السلطوية الجديدة. لا أعنى بالضرورة الابتعاد المكانى – فهذا الاختيار غير متاح للكل ويفتقد فى حالتنا المصرية للمصداقية والفاعلية، بل أقصد أن ننحت سلميا لقيم الحق والعدل والحرية التى نؤمن بها ونثق فى أنها ستأتى بالأفضل لمصر مساحات مجتمعية جديدة لا تتقاطع مع المساحات التى تسيطر عليها السلطوية. لدينا شبكات للتواصل الاجتماعى يستحيل أن تخضعها القبضة الأمنية ونستطيع نحن أن نضخ فيها من الدفاع عن الحق والعدل والحرية ومن المساءلة الجادة لأفعال وممارسات السلطوية الجديدة ما يصنع منها مساحة رقابية فعالة، لدينا أيضا قدرات متنامية لتوثيق المظالم والكشف عنها وعن المتورطين فيها فعلا والمكارثيين المتورطين فيها تبريرا ونستطيع أن نحاصرهم بأدوات مباشرة وبسيطة كالكتب السوداء، لدينا طاقات إبداعية وطاقات علمية ومهنية وعمالية وشبابية ونستطيع أن ندفعها لإدارة حوار جاد حول كيفية صناعة بديل ديمقراطى ينتصر للمواطن وللمجتمع وينتصر أيضا لتماسك مؤسسات الدولة الوطنية ويمتنع عن الاكتفاء بالنقد والتفنيد. لنبتعد نحن عن السلطوية الجديدة، ونترك لها أحاديث الانتخابات والبرلمان والدستور، وننحت بسلمية للمواطن وللمجتمع ولو القليل من المساحات البديلة.