عند مصرع «يوليوس قيصر» وصلت المشاعر الإنسانية المتضاربة ذروتها التراجيدية. كانت لحظة تاريخية بقدر ما كشفت من حقائق الصراع على مستقبل الإمبراطورية الرومانية وإنسانية بقدر ما أزاحت من أقنعة وعرت من خيانات. استلهم «وليام شيكسبير» اللحظة وأسس عليها واحدة من أخلد ما كُتب للمسرح فى التاريخ كله. بفضل أشعاره المسرحية بالغة الروعة والجلال احتفظت الذاكرة الإنسانية بصيحة القيصر المغدور تحت وطأة خيانة صديقه الأقرب: «حتى أنت يا بروتوس» واستقرت فى الكتابات السياسية الغربية مرثية «مارك أنطونيو» وهو يتعهد بالثأر لدم القيصر، كمثال للمدح والقدح بنفس الوقت وخلط الأوراق السياسية على نحو مربك. على ذات النهج استلهم «محفوظ عبدالرحمن» لحظة مماثلة من التاريخ المصرى عند مصرع «سيف الدين قطز» بتدبير من «الظاهر بيبرس». فى طريق عودة الجيش المنتصر على المغول بعد معركة «عين جالوت» اغتيل «السلطان» وجلس صديقه اللدود على عرشه. فى مونولوج طويل فيه حب ومقت، إعجاب وكراهية، ولاء وانتقام، أخذ «بيبرس» يرثى صديقه الذى قتله للتو فى رائعة «محفوظ» «الكتابة على لحم يحترق». أى لحم هذا الذى يحترق؟ إنه لحمنا نحن والكتابة عليه تعلم بقدر ما تجرح وتلهم بحجم ما نستوعب. وهذه قضية «محفوظ» فى مشواره الأدبى الطويل. بيقين فهو مؤسس الدراما التاريخية التليفزيونية، وهو علمها الأول بأى معنى حديث. كتب القصة القصيرة والرواية وأخلص للمسرح ناقدا ومؤلفا متأثرا بأستاذه «سعد الدين وهبة»، وأبدع للسينما والإذاعة لكن إسهامه الأساسى يتلخص فى الدراما التاريخية دون غيرها. بالتكوين فهو قارئ تاريخ محترف، يدقق فى الروايات والمذكرات والوثائق وتستهويه ما تنطوى عليه من تراجيديات. يبنى عقيدته الخاصة قبل أن يضع حرفا واحدا على ورق، يكتب وهو يعرف وجهته الأخيرة. الكتابة التاريخية ليست حصصا فى الإنشاء الدعائى، شخصيات مسطحة بلا أبعاد إنسانية ووقائع توظف حقائقها لمقتضيات المصالح وتسويات الحسابات. أعماله المستلهمة من وقائع تاريخية بعيدة مثل «ليلة سقوط غرناطة» و»ليلة مصرع المتنبى» و»سليمان الحلبى» تستمد قيمتها من مدى صدقها الفنى والتزامها فى الوقت نفسه بالحقائق الأساسية، فلا تزيف التاريخ ولا تدعى عليه لكنها تضيف شخصيات للدراما لم توجد قط حتى يتسنى للمؤلف إثراء العمل وكشف البيئة المحيطة التى تجرى فيها حوادثه. القاعدة نفسها تنطبق على الدراما التاريخية المعاصرة غير أن المهمة هذه المرة أصعب وأشق. فى «بوابة الحلوانى» رؤية متماسكة تاريخيا وجديدة دراميا لقصة حفر قناة السويس، كيف تغيرت الحياة فى «الفرما» التى أصبح اسمها تاليا «بورسعيد»، وكيف كانت صورة الحياة السياسية والثقافية والفنية فى تلك الأيام؟ فى هذا العمل أعاد «محفوظ» كتابة التاريخ على لحم يحترق. لأول مرة يرد اعتبار الخديو «إسماعيل» دراميا بعد أن دأبت لسنوات طويلة مسرحيات وأفلام كوميدية على السخرية منه دون ذكر اسمه. فى رد الاعتبار الدرامى انتساب لتيار تاريخى عريض ينصف «إسماعيل» ويقدر حجم ما أنجزه فى بناء مصر الحديثة رغم أية أخطاء فادحة ارتكبها. ورغم أن «محفوظ» ينتمى إلى تجربة «جمال عبدالناصر» التى أطاحت بالنظام الملكى وورثة «إسماعيل» فإن ذلك لم يمنعه من قراءة التاريخ على نحو صحيح بذات القدر الذى ذهب إليه الكاتب الصحفى الراحل «محمد عودة» الذى ينتسب إلى التجربة ذاتها ودافع عنها باستقامة وشجاعة فى السبعينيات بمساجلاته الشهيرة مع «توفيق الحكيم». وقد شغلت «محفوظ» قضية قناة السويس أكثر من أية قضية أخرى. لا يوجد أديب أو مثقف آخر على ذات درجة الدراية بأدق تفاصيل قصة القناة السياسية والإنسانية معا، قرأ كل المذكرات وراجع كل الوثائق وحاور كل شهود العيان، والتزم الصدق التاريخى فى مسلسل «بوابة الحلوانى» وفيلم «ناصر 56»، والعمل الأخير ظاهرة بذاته، فقد أقبلت عليه أجيال الشباب التى لم تر «عبدالناصر» ولا عاصرت تجربته، وكان دوى التصفيق المتواصل فى قاعات العرض رسالة إلى المستقبل أن كل ما له قيمة فى هذا البلد يستحيل حذفه وكل أمل دفع المصريون استحقاقاته لا يتبدد. وعندما كان يكتب سيناريو «ناصر 56» تحمس «أحمد زكى» للعب هذا الدور، ولم يكن «محفوظ» مقتنعا، فالمواصفات الشكلية للزعيم الراحل لا تنطبق على أى نحو مع صديقه الفنان الأقرب بإطلاق بعد رحيل «عبدالله غيث». غير أن «أحمد زكى» زاره بلا موعد مسبق فى منزله بزى عسكرى وعلى ملامحه تأثيرات خاصة تقربه من الصورة المطلوبة وبادره قائلا: «أنا جمال عبدالناصر».. وكان صادقا فهو بطبيعته الفنية يتماهى مع الشخصية التى يمثلها. بالنسبة ل»محفوظ» فإن الأساس هو «حفظ الشخصية التاريخية» قبل الكتابة عنها، أن تعرف مفاتيحها وكيف يمكن أن تتصرف فى المواقف المختلفة، وعندما تحفظها فالمغاليق تفتح أمامك. لكنه لم يكن مستعدا، وهو يبحث ويحقق كل ما كتب عن «أم كلثوم»، أن يدخل فى مناطق من حياتها الشخصية بروايات ظنية لا دليل نهائى عليها، أو أن تكون الإثارة مقدمة على القيمة. ذهب إلى ما أراده دون إغواء فى رواية قصة صعودها إلى قمة لم يصل إليها أحد آخر فى تاريخ الغناء العربى كله، وكان له ما أراد، فقد كان نجاح المسلسل مدويا فى العالم العربى من محيطه إلى خليجه، وقد نقلت وكالة الأنباء الفرنسية من بغداد أن الشوارع بدت خالية من المارة عندما كان المسلسل يبث، وأصوات البكاء ارتفعت فى اللحظة التى صرخت فيها «ثومة» آهتها الأخيرة. لسنوات طويلة اقترن اسمه ب»أسامة أنور عكاشة»، فلا يذكر اسم أحدهما حتى تستدعى الذاكرة الآخر، هما توأم فنى ينتميان إلى الأفكار نفسها لكن كل على طريقته، ف»محفوظ» المثقف الموسوعى تمتد أعماله الدرامية فوق خطوط التاريخ، و»أسامة» الفنان الملهم تقتحم أعماله المجتمع وتحولاته. غير أن كليهما أخذ شيئا جوهريا من عالم توأمه، ف»محفوظ» أضفى على سيناريوهاته التاريخية رؤية اجتماعية للعصر الذى تجرى فيه وخلق الدراما من بين التناقضات، بينما أسبغ «أسامة» على روايته الاجتماعية رؤية تاريخية تعمقها وتضفى عليها رسالتها، كما فعل فى أعماله التليفزيونية «ليالى الحلمية» و»المصراوية» و»زيزينيا». الدراما التاريخية بلا رؤية لمجتمعها مبتورة والدراما الاجتماعية بلا رؤية لتاريخها مسطحة. وكان كلاهما على علم بأصول الصنعة، مدركا أنه يكتب على لحم يحترق لمجتمع يتوق للحرية والعدل. لكل تجربة خصوصيتها، وتجربة «محفوظ» ملهمة بقدر ما أكدت قيمة الالتزام دون ادعاء أو زيف وأن الكتابة على اللحم الذى يحترق مسئولية.