المقال الحميم الذى كتبه المحامى مختار نوح عن استاذه أحمد نبيل الهلالى ونشرته صحيفة «الدستور» فى 22 يوليو الحالى يسلط ضوءا قويا على وجه آخر محجوب عن الرؤية للعلاقات بين عناصر النخبة المصرية. فالأول محام معروف بتوجهه الإسلامى، والثانى قيادى ماركسى مرموق توفاه الله. (كان المقال بمناسبة مرور ثلاث سنوات على رحيله)، وبالنسبة لكثيرين، فإن العلاقة الإنسانية والمهنية بين الرجلين تبدو مفاجئة وغير معهودة، ذلك أن التناقض الفكرى بينهما يرشح تلك العلاقة للاشتباك والخصام والتنابذ، لكن الذى حدث بينهما كان شيئا معاكسا تماما، إذ من الواضح أنها أتسمت بالمودة الشديدة والرقى، بدا فيها أن الأستاذ الهلالى نموذج إنسانى رائع بادله مختار نوح بما يستحقه من احترام ووفاء، حتى وصفه بأنه «قديس». حين قرأت المقال تذكرت رموزا من عقلاء اليسار اتسموا بذات القدر من الرقى والنبل، أعرف منهم الأساتذة الذين توفاهم الله محمد سيد أحمد وإبراهيم سعد الدين وعبدالعظيم أنيس، ومن الأحياء عبدالغفار شكر وحلمى شعراوى وغيرهما. تذكرت أيضا ما قاله ذلك القيادى الماركسى قبل أيام من أن أعداءه هم (الإخوان الإسلاميون عموما بطبيعة الحال). وأضاف إليهم الحكومة من باب التمويه، وجاء كلامه معبرا عن تيار الغلاة الذين لم تعد تشغلهم سوى خصومة الإسلاميين. الملاحظة الجديرة بالانتباه أن مواقف المعتدلين من التيارين الإسلامى والماركسى، التى اتسمت بالاحترام على الصعيد الفكرى والانسجام على الصعيد الوطنى والسياسى، لا تكاد تظهر فى الفضاء السياسى والإعلامى. أما مواقف الغلاة وخطابهم فهو الأقوى حضورا والأوفر حظا من الأضواء، ليس ذلك فحسب، وإنما يتلقى رموز الغلاة المخاصمين برعاية رسمية مشهودة، حولتهم إلى نجوم فى الدوائر الإعلامية والسياسية. هذه الملاحظة وجدتها مكررة فى علاقات الإسلاميين بالفئات الأخرى، بالأقباط والعلمانيين والقوميين والناصريين والليبراليين وغيرهم من المخالفين، إذ تظل الأضواء والرعاية الرسمية من نصيب الغلاة والمخاصمين، أما المعتدلون بشخوصهم وخطابهم فإن الأضواء تنحسر عنهم، رغم أن ما بينهم من علاقات إنسانية راقية، لا تقل عما كان بين نوح والهلالى من مودة واحترام، حتى يبدو وكأن العراك والاحتقان مرحب بهما، فى حين أن التفاهم والتصالح أمر غير مرغوب فيه ولا مرحب به. هل هى مصادفة أم أن لها دوافع أخرى؟ أفهم أن تتوتر العلاقات بين العوام فى هذه الفئات جميعها، لكنى لا أستطيع أن أبرئ تماما موقف النخبة التى نعول عليها، إذ بين عناصرهم من تمكنت منهم المرارات السياسية والخلافات العقائدية، مقدمين ما هو أيديولوجى على حسابات المصلحة الوطنية. ومنهم من يتاجر بتلك الخلافات، ويسعى إلى تعميقها وتفجيرها ليس تنفيذا لحسابات وأجندات جهات أخرى، داخلية فى حدها الأدنى، باعتبار أن تفجير الخلافات يشغل القوى السياسية بصراعاتها، ويحول دون اصطفافها فى موقف وطنى أو سياسى واحد. قبل سنوات قليلة جاء شاب إلى مكتبى ليروى القصة التالية: أنه قرأ إعلانا فى إحدى الصحف طلب متخصصين فى الصف الإلكترونى، فحمل أوراقه وذهب إلى الجهة البحثية التى صاحبت الإعلان، وحين اطلع عليها الموظف المختص فأنه هز رأسه مرحبا وقال للشاب إن خبرته جيدة، كما أن هويته باعتباره نوبيا تعطيه أولوية على غيره، سأله الشاب ببراءة، لماذا تفضلون النوبيين، فقيل له لأنهم مضطهدون والمركز يتبنى قضايا المضطهدين. حينئذ رد صاحبنا قائلا إنه من النوبة حقا لكنه لا يشعر بأنه مضطهد. وحينئذ رد الموظف مؤكدا أن النوبيين مضطهدون، حتى وإن لم يلاحظ هو ذلك، فاستغرب الشاب وجمع أوراقه وانصرف، وقصد مكتبى ليروى القصة وليفصح عن شكه فى دوافعها. إن العابثين بالنسيج الاجتماعى والصف الوطنى كثيرون، وهم ينشطون فى ظل المناخ السائد الذى يغذى مثل هذا التقاطع ويستفيد منه. والمشكلة الحقيقية أن العقلاء والمعتدلين لم ينجحوا فى أن يصطفوا فى جبهة واحدة تحترم الخلافات وتستعلى فوقها، ليصبح الهم الوطنى هو القاسم المشترك الأعظم بينهم، وما لم تمتد الجسور بين هؤلاء، فإن الساحة ستظل متروكة للغلاة العابثين والمتاجرين ومن لف لفهم، وسيدفع المعتدلون والوطن قبلهم ثمنا باهظا جراء ذلك.